عادل نعمان
ولسنا في حاجة إلى كل هذه الجهات، التي تُصدر آلاف الفتاوى ليلاً نهاراً، حتى تتفاخر وتتباهى دار الإفتاء المصرية.. بإصدار مليون وثلاثمائة ألف فتوى في عام واحد، فلو أضفنا لها المؤسسات الرسمية الأخرى، والقنوات الفضائية الخاصة، ومشايخ المنابر، والجهات المتعددة للفتوى في الدول الأخرى، فإننا – وبحمد الله – نصل إلى فتوى لكلِّ مواطن يومياً. فإذا أسرفنا وأغرقنا الناس في الفتوى، فما أسرع أن يصيب التفكير والتدبير الكسل والفتور، ويعتمد الناس التثاقل والتباطؤ منهجاً للحياة، وينزع الناس أيديهم عن زمام الأمور، ويدعوها كالمعلقة.. دون تدبير أو تصريف، ومن ثم تتسلل رويداً رويداً حتى تغطي مساحة اليوم بلا قرار، والغد، بلا تدبير.
وإذا كنا نأمل أن يكون للفتوى دور إيجابي في حياة الناس، وتقدمهم، وتمسكهم بالعلم والعمل، فلا بد من استبعاد فتاوى الخرافات والمعجزات والأساطير، والجن. والأهم، هو رفع وحذف كل الفتاوى.. التي تخاصم العلم والعقل، والفتاوى التي يعتمدها الناس.. لمخالفة القانون والأعراف والقيم.. مهما كان لها سند وتأصيل؛ فهذه فتوى «برهامي».. التي تخالف قواعد الشهامة والمروءة («إنه يجوز ترك الزوج زوجته للمغتصب، حال التأكد من إصرار المغتصب على قتله واغتصابها.. مخافة الأذى والهلاك»)؛ اعتماداً على فتوى الإمام «العز بن عبد السلام» عن وجوب تسليم المال للصوص، حفظاً للنفس من القتل.
ويستند «برهامي» أيضاً، إلى سلوك سيدنا إبراهيم مع زوجته سارة.. في دخولهما مصر، والقياس ليس في محله؛ فليس الشرف والعرض كالمال.. يمكن التنازل عنه. ولا يمكن أن يُستدل على ترك الزوجة تُغتَصب.. عند الضرورة، بما فعله سيدنا إبراهيم.. حين لم يصرِّح بأن سارة زوجته مخافة قتله، فيترك الرجل زوجته للمغتصب.. حتى لو فعلها سيدنا إبراهيم، وليس هذا الخذلان دليلاً شرعياً، على أن يترك الرجل زوجته تُغتَصب.. خوفاً على نفسه. وكان الأجدر أن تحمل الفتوى ضرورة الدفاع عن الشرف والموت دونه، وإن لم يكن الموت دفاعاً عن الشرف فلمن يكون؟
ومن الفتاوى أيضاً، ما أفتى به الشيخ «عبد الله السويلم» بأن زنا المحارم، أهون عند الله.. من ترك صلاة الفجر، «فلو مات تارك صلاة الفجر متعمداً، فلا تجوز الصلاة عليه، ولا يُدفن في مقابر المسلمين، وهذا رأي الكثير من العلماء، بينما يرى هو وغيره.. أن الزاني بإحدى محارمه.. لو مات وهو مُصلٍّ، فإنه يُصلَّى عليه، ويُدفن في مقابر المسلمين».
ولست أرى في هذه المقارنة حكمةً أو كياسةً، ولا يجوز اعتماد هذا الاستدلال، فهو استدلال يقلل من حجم جريمة زنا المحارم، والتحقير من شأنها، ولا يُشعر المواطن بفداحة هذه الجريمة، وشناعة ارتكابها، إذا كانت في موضعها هذا. ولم يكن في هذه المقارنة عظة أو حكمة، أو استدلال عقلاني للمسلم.. كي يعرف ويعي حجم ما يرتكبه من معصية، في ترك صلاة الفجر، حتى يكون الاستدلال هو الاستهانة بزنا المحارم أو التحرش أو الاغتصاب.. وهو جُرم، أبشع من ترك صلاة الفجر، فإن ترك صلاة الفجر أهون عند الله.. من زنا المحارم. وتارك الصلاة جريمته تقف على أعتاب صاحبها لا تتجاوزه، أما جريمة زنا المحارم فإنها تطرق أبواب المجتمع كله، فتزلزل كيانه، وتضربه في مقتل. وكان الأولى ألا يُستدعى هذا المثال للتدليل على حجم وفداحة التغافل عن صلاة الفجر.. بالضبط كفتوى زواج الصغيرة عند التاسعة، أو قبل هذا.. إن كانت تطيق الوطء، قد نقلتها هذه الفتوى من صفوف الطفولة، إلى غرف المتزوجات المؤهلات للفعل، فيتوازى – في هذا الزواج – مع التحرش والاغتصاب، وهو أمر جدّ خطير.
وهذه فتوى الشيخ علي جمعة – مفتي الديار المصرية الأسبق، وعضو لجنة العلماء، ومن قبله الشيخ الشعراوي – أنه لا إثم على الرجل حين النظر إلى المرأة السافرة، لأنها أسقطت الرخصة التي منحتها لها الشريعة الإسلامية، وأصبح النظر إليها.. لا حرمة فيه، وأن المرأة المُحجبة لها رخصة، ولا يجوز النظر إليها إلا بعد استئذانها، وقد سبقه إلى هذا الشيخ الشعراوي حين قال «مبالغة المرأة في تبرجها.. إلحاحٌ منها في عرض نفسها على الرجل». وهذه الفتوى كانت تحريضاً على التحرش بالسافرات.. طالما قد أسقطن شرعاً رخصة الحماية، وأصبح النظر إليهن مستباحاً، وتخطى الأمر – بطبيعته – حدود النظر.. إلى اللمس والمطاردة، ويكفي أحدهم حين قال «إللي يشوف متبرجة ولا يتحرش بها مش راجل»، فحمل الناس على النساء شطط التحرش تحت غطاء هؤلاء.
ثم ما هذا الخرف الذي أصابنا، وسيل الفتاوى عن الجن، والفارق بين الجن الكافر والمسلم، وماذا يأكل؟ وماذا يحب؟ وكيف يسرق؟ وكيفية الاستعانة به؟ وأين يسكن؟ ومتى يُقتل؟ وما يغضبه؟ وكيف يُسخِّر الجن في العلاج؟ ومتى يشارك الرجال مضاجعة زوجاتهم؟، وكلها أمور يغيب فيها العقل والمنطق، بل وتعتمد الخرافة.. هروباً من فعل الجريمة، فماذا لو ذهب أحدهم – معتمداً على الشرع – في توجيه تهم ارتكبها الجن.. نيابةً عنه في سرقة أو قتل؟
ارفعوا سيل الخرافات والأساطير المعطِّلة، وأعيدوا للعقل اتزانه وسيطرته، واسألوا أهل العلم. »الدولة المدنية هي الحل«.
نقلاً عن «المصري اليوم«