Times of Egypt

عن هوية مصر في سياقها التاريخي «4»

M.Adam
د. أحمد زكريا الشلق 

د. أحمد زكريا الشلق..
.. ولا أود أن نغادر حديث الأدب والهوية، قبل أن أتذكر مساهمة الأستاذ الشيخ أمين الخولي (1895-1966) التي بسطها في كتابه «في الأدب المصري» عام 1943، الذي أراد فيه أن ينبّه إلى أن ثمة أدباً مصرياً متميزاً.. يِنسب إلى مصر في تطورها التاريخي، ويِعد أحد مكونات ومنتجات الشخصية المصرية. وحتى لا يتهم بالإقليمية، ذكر أن مصرية الأدب.. لا اتصال بينها وبين ما يزعمه الزاعمون من فرعونية مصر، وأكد أنه يود دراسة هذه «المصرية الأدبية»..في صورتها العربية ودورها الإسلامي؛ منذ عرفت مصر ذلك، وانحازت إليه وشاركت فيه، وعملت من أجله.. كما أن الإيمان بالشخصية المصرية عقيدة يخفق بها قلب كل مصري.
وأوضح الشيخ أنه يدعو لأن ندرس هذه المصرية.. في صورتها العربية ودورها الإسلامي. بعد أن صار الشعب العربي -خارج جزيرته -شعباً تنوعت به البيئات وتعددت الأصقاع.. «إننا نقدِّر قبل كل شيء أن هذه الوحدة المركبة على ما يتمثلونها، لن يضيرها أن يشعر كل جزء من أجزائها بوجوده وذاته وشخصيته، فيكون بذلك عنصراً نافعاً.. مجدياً على الوحدة التي يدخلها. ومن هنا تكون العربية الأولى منبعاً وأصلاً لهذه الآداب الإقليمية. ومصر المصرية – الشاعرة بشخصيتها، المؤمنة بكيانها المتحيز (المتميز) ووجودها المتمثل – لن تنكر ما فيها من العروبة، بل ربما تجد في بحثها عن عناصر هذه الشخصية المصرية، أن الدم المصري – مثلاً – قد تخلطه، فتجمعه بالعرب قرابة قوية وصلة وثيقة».
وفى إطار اتخاذ التاريخ مقوماً أساسياً.. من مقومات تكوين مصر، قام الأستاذ محمد حافظ رمضان باشا (1880 -1955) – الرئيس الثالث للحزب الوطني المصري منذ عام 1923، بعد مصطفى كامل ومحمد فريد – بتأليف كتاب عام 1945، يصور مراحل تاريخ الإنسانية، وكيف تطورت المدنية عبر العصور، حمل عنوان «أبو الهول قال لي»..سجَّل فيه حواراً أو حديثاً مفترضاً جرى بينه وبين أبي الهول، الذي أخذ يقص عليه تاريخ الإنسانية من بدء المدنيات القديمة، مستعرضاً مدنية الفراعنة، فمدنيات الشرق الأدنى المعاصرة لهم، وملامح من تاريخ حضارات الإغريق والرومان، وكيف مرَّت مصر، بالمسيحية ثم الإسلام، حتى عهد المماليك، مركزاً على «خصائص مصر».
وكان هذا هو الجزء الأول من المشروع الذي لم يقدَّر له أن ينشر سواه. المهم أنه اتخذ من حركة التاريخ سجلاً مترابطاً ومتتابعاً مرَّ على مصر؛ التي حفظت نفسها في إطاره وكانت حركته – عبر الزمن – تأكيداً لهويتها واستمراريتها.
غير أن أول محاولة ناضجة تستعرض تاريخ مصر عبر العصور – وعين مؤلفها على فلسفة وقائعه واتصالها بهوية مصر وتكوينها – جاءت من صبحي وحيدة (1912 – 1956) في كتابه «في أصول المسألة المصرية» (1950)..الذي تعمَّق في جذور فلسفة تاريخ مصر، حيث ركز تحليلاته على الحالة الداخلية لمصر؛ متخذاً من الجانب الاقتصادي أساساً لتطور الجوانب الأخرى من الشخصية المصرية، وعلى الأدق لعملية الصياغة التاريخية للمجتمع المصري عبر الأجيال، بدلاً من التنديد بالاحتلال، وإن كان موقفه من رفض الاحتلال.. حاداً وعميقاً لا هوادة فيه. وهكذا ركز وحيدة على النواحي الاقتصادية والاجتماعية.. بدلاً من التركيز على التاريخ السياسي والدبلوماسي. والمؤلف كان متوافقاً مع الاتجاه التقدمي في الحركة الوطنية المصرية، والكتاب في مجموعه يُعنى باستمرارية مصر، رغم تنوع أطوارها عبر التاريخ، ويقدم رحلة في أعماق مصر من الفتح العربي حتى الخمسينيات من القرن الماضي.
ومع نجاح ثورة يوليو 1952 وقوة ورسوخ إجراءاتها الأولى – التي أثبتت أنها ليست مجرد انقلاب عسكري – قدَّم الدكتور حسين مؤنس (1911 – 1996) قراءة جديدة لتاريخ مصر في كتاب مهم تحت عنوان «مصر ورسالتها» (1955). وقد أضاف المؤلف عنواناً فرعياً.. دالًا – في الطبعات التالية – هو «دراسة في خصائص مصر ومقومات تاريخها الحضاري ورسالتها في الوجود». وقد كتب عن مصر أم الدنيا، وقسَّم موضوعه تقسيماً جغرافياً مكانياً، فتحدَّث بالتفصيل عن الأبعاد الثلاثة لتاريخ مصر، أو- كما سماها – حدود مصر الحضارية في الاتجاهات الثلاثة: مصر وأفريقيا، مصر والبحر المتوسط، مصر والشرق (يقصد الشام وآسيا).
وربما كان هذا العمل أول من تحدَّث عن البعد الأفريقي في تكوين مصر آنذاك – حين تحدَّث عن الحدود الحضارية – ولعله تأثر بالدوائر الثلاث التي ذكرها الرئيس عبدالناصر في كتابه «فلسفة الثورة».
وبعد أن أثبت – من حقائق التاريخ – أن مصر تنازعت تاريخها ثلاث قوى: أفريقيا وآسيا والبحر المتوسط، وأن القوة الأولى تلاشت في منتصف الدولة الحديثة من تاريخ مصر القديم، بينما فرضت القوة الثانية على مصر فرضا، وتمكنت -في فترات طويلة -من تحويل اتجاه تاريخها.. وجعله آسيوياً – خلال قرون كثيرة من العصور الوسطى – ولا يدخل العرب أو الإسلام في تلك العناصر الآسيوية؛ فالعرب كانوا دائماً عنصراً سكانياً أساسياً في تكوين مصر (وسيناء التي هي من مواطن العرب.. أرض مصرية، وصحراء مصر الشرقية.. كانت حافلة بالعرب المصريين). أما القوة الثالثة -وهي البحر المتوسط -فهي العنصر الأساسي في تاريخ هذا البلد. ومصر.. التي وُلدت أفريقية، لم تلبث أن صارت بحرية، مثلها مثل اليونان والرومان، حين أقبلوا من قلب القارة الأوروبية.. واجتذبهم البحر، وأخضعهم لسلطانه، وحمَّلهم تراث حضارته.
هذه القوى الثلاث التي تنازعت تاريخ مصر هي الأبعاد الثلاثة لهذا التاريخ، وهي في مجموعها تعطي هذا التاريخ حجمه وعمقه. وهي التي تحدد لنا حدود الحضارة المصرية، فلكل بلد – ذي مقام – حدود حضارية، والتاريخ في صميمه تاريخ حضارات وصراع مدنيات، وحدود مدنيتنا هي حدود تاريخنا.
نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة