محمود محي الدين
ليست الحرب التجارية وحدها.. السبب فيما يعانيه العالم اليوم؛ فالتجارة ما هي إلا أحد المحاور الاقتصادية المتعددة.. للصراع الدولي الراهن، بين القوى التقليدية والقوى البازغة. فلا يمكن تجاهل القيود المتزايدة المفروضة على حركة الاستثمار، ويصعب غض الطرف عن موانع، تقام في سبيل حركة البشر.. من العاملين أو طالبي العلم. أو عوائق تترصد التعاون التكنولوجي.. فى مجالات طالت قوائمها، ضد جنسيات بعينها.
وفي هذه الأثناء، تتجدد دعوات قديمة.. بأن الامتياز السخي الفياض للدولار – على حد وصف جيسكار ديستان، عندما كان وزيرًا فى الحكومة الفرنسية في الستينيات – آنَ له أن يشهد بدايات – طال انتظارها – لنهايته. وقد تكررت هذه الدعوات.. مع إعلان الرئيس الأمريكي نيكسون، عدم تحويل الدولار إلى ذهب في عام 1971، مما تسبب في نهاية العمل بنظام «بريتون وودز» لعام 1944، الذي دشَّن الدولار عملةَ احتياطىٍّ، فارتبطت به العملات المحلية بأسعار صرف ثابتة، وكان يتم تحويله تلقائيًا إلى ذهب.. بمقدار 35 دولارًا لكل أونصة من الذهب. واستمر الجدل حول نظم سعر الصرف، ومدى عدالتها وكفاءتها، ومحاولة البحث عن بديل للعملة المتوَّجة.
وحتى يومنا هذا، تُقوَّم العملات نسبةً إلى الدولار، وترتبط به بدرجات متفاوتة.. أسعار صرف العملات، فإن اتبعت الدول نظام صرف ثابتًا، كان ذلك بالنسبة إلى الدولار. وإن تبنَّت أسعار صرف مرنة، كان ذلك بالنسبة إليه أيضًا. ربما أُضيفت عملات أخرى.. في سلة العملات، ولكنه يظل أهمها نسبيًا في الأوزان. وحتى لو لم يكن الدولار طرفًا مباشرًا فى المعاملات، مع ازدياد استخدام عملات أخرى محلية ودولية عبر الحدود، فما زال يُستنَد إليه.. على أنه عملة «معبرية»، تقاس بالنسبة إليها.. قيم العملات الأخرى وأسعار صرفها.
وعلى مدار سبعة عقود مضطربة.. للتمويل الدولي – على حد وصف الاقتصادي المرموق بجامعة هارفارد، وكبير الاقتصاديين الأسبق لصندوق النقد الدولى.. كينيث روغوف، فى كتابه الجديد عن الدولار – يتبيَّن بالتحليل العلمى.. أن الخلود ليس من صفات العملات الدولية. فمقومات تمتعها بالتميز.. الذي تستحق به أن تكون عملةَ احتياطيٍّ، ناهيك بانفرادها بالقمة.. محل فحص وتمحيص، لا يعرف المجاملة، أو يستجيب للتهديد أو الوعيد.. إذا ما بدأت موجات للتخلي عنها. فالعالم في حالة رصد دائمة لحركة الدولار، وقيمته، ومدى استقراره وصموده.. أمام موجات التضخم في بلاده، وديونها المتراكمة، والتزامها بقواعد القانون، واستمرارها – بمصداقيةٍ – في الوفاء بالتزاماتها، واستدامة تمتعها بعمق أسواقها، وسيولتها، وتنوع أوعيتها المالية، واعتبارها ملاذًا آمنًا.
وفي حالتنا الراهنة، فإنه مع انفلات الديون.. مع زيادة في أسعار الفائدة، ومعها تكلفة الاقتراض، وتحجيم دور البنك الفيدرالي.. في كبح التضخم، في ظل أجواء الصراع الجيوسياسي والحروب الاقتصادية.. يكون العالم بصدد مشكلة تمس كل أطرافه. وقد رأينا في سجل الأزمات العالمية السابقة، أن تبعاتها لا تصيب بالأذى.. مَن تسببوا فيها وحدهم، ولهذا جاء التحذير المتكرر – فى مقالات سابقة – من شرور تمكُّن «حمقى السياسة، وسفهاء الاقتصاد».
يُذكِّرنا روغوف بمقولة وزير الخزانة الأمريكية – فى عهد نيكسون – جون كونولي، عندما واجه نظراءه.. الممتعضين من آثار السياسة الأمريكية المنفردة على اقتصاداتهم، بقولته الشهيرة: «هو دولارنا، وتلك مشكلاتكم». فما زالت السياسات الأمريكية.. الساعية لمصلحتها المنفردة، غير المكترثة بنتائج غير مقصودة على الشركاء، أو مقصودة على الغرماء، تُلقي بأعبائها على عموم الناس حول العالم. والولايات المتحدة في تاريخها المعاصر – بغضِّ النظر عن أسلوب الإدارة الحاكمة، سواء تحلَّت بمظهر المتعاون الودود، أو تلبَّست دور الكاوبوي الأرعن – تترك سائر العالم.. ليحتوى تداعيات إجراءاتها؛ بين صمودٍ وانهيارٍ، حسبَ أحوال متانة الاقتصادات الأخرى، ومرونتها في تلقي الصدمات والتعامل معها.
ألم يكن تضخم السبعينيات في الولايات المتحدة.. وبالاً على الاقتصاد العالمي في بلدان شتى، عانت من ارتفاع أسعار الفائدة وتكلفة التمويل، وتسببت في موجة من موجات أزمات المديونية، ثم سرعان ما تعافت الولايات المتحدة من تضخم أسعارها، تاركةً بلدانًا نامية في اضطراب محتدم.. في أزمة سبَّبَتها بارتفاع تكلفة مديونياتها الدولارية؟
ألم تكن أزمة الرهون العقارية الأمريكية.. هي التى أشعلت الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وكانت الولايات المتحدة أول المتعافين منها.. تاركةً أوروبا في اضطراب مالي ثم اقتصادي.. بتداعيات اجتماعية وسياسية مستمرة إلى يومنا هذا، مع تأثيرات متفاوتة على بلدان نامية، وذات أسواق ناشئة، تراجعت تجارتها واستثماراتها ومعدلات نموها وفرص العمل فيها؟
هذا ما صار، لكن في عالم شديد التغير، هناك ما يقض مضجع مَن يتصور دوام الهيمنة، رغم تآكل مقوماتها. فما يهدد تفوق الدولار – حقًا – من مخاطر.. يأتي من الداخل، وليس من الخارج. ومن أشد هذه المخاطر أثرًا.. زيادة عجز الموازنة الفيدرالية، والتصاعد المستشرى في المديونية، بما يدفع التضخم إلى الزيادة، ومعه ترتفع أسعار الفائدة. ويزيد معها تعرض الاقتصاد الأمريكي لتقلبات مالية حادة.. بتداعيات على الاقتصاد العالمي، وزيادة احتمالات أزمات مالية عنيفة.. مدفوعةً بالمديونية الدولية.
وتستشري المخاطر، إذا ما تعرض البنك الفيدرالي لمهددات تنال من استقلاله، وتعوقه عن أداء وظيفته الرئيسية.. في الحفاظ على الاستقرار النقدي والسلامة المالية.
ويذكِّر روغوف.. من يرى في نتائج تحليله، مبالغة في آثار عدم الانضباط المالى.. بقوله: «لو لم نتعلم إلا شيئًا واحدًا – من تحليل تطور النظام النقدي العالمي خلال السنوات السبعين الماضية – فهو أن التغيرات المفاجئة.. ليست قابلة للحدوث فحسب، بل هي تحدث بالفعل».
نقلًا عن «الشرق الأوسط»