أحمد الجمال
يوم الاثنين 17 فبراير، حلّت الذكرى التاسعة لانتقال الأستاذ محمد حسنين هيكل.. من غلاف الضوء والهواء، إلى غلاف النور الأبدي. ورغم الرحيل، سيبقى الرجل الصحفي، والكاتب، والسياسي، والمؤرخ، والمفكر المثقف.. حاضراً بالإيجاب والسلب، في ذهن ووجدان من عرفوه واقتربوا منه، ومعهم ومن بعدهم، إلى ما شاء الله.. في تاريخ مصر والعرب المعاصر؛ شأنه شأن أعلام سبقوه ولحقوه، من من تركوا بصمتهم العميقة.. في مجالهم المهني، وفي الحياة العامة.
وكشأن كثيرين، ورغم أنني لم أعمل مع الذين عملوا معه، فإن لي رصيداً لا بأس به من الذكريات، تبدأ بأول لقاء مباشر أواخر عام 1971، حين اصطحبت أعضاء اللجنة الثقافية باتحاد طلاب جامعة عين شمس.. للقاء معه بمكتبه، وكنت قد تخرجت.. وأضحيت طالب دراسات عليا، وممثلاً لها في ذلك الاتحاد. جلسنا حول المائدة المستديرة، ودار الحوار.
فجأة توقف، ليوجه كلامه لي.. متسائلاً ومستنكراً: «لماذا تحرص على أن تحاول الحديث بالفصحى، إنه أسلوب أقرب للخطابة، والخطابة أسلوب غير علمي؟!» ومن فوري – وقد أحسست بالجرح – رددت: «أظن أن الفصحى.. أفضل من خليط الإنجليزية مع العامية مع الفصحى.. الذي تتحدث به. ولعلم سيادتك، فإن هؤلاء الشباب.. لم يفهموا معظم المصطلحات». فإذا به يتجهم، ويرد «حضرتك جاي تعمل مباراة معايا؟!» فتراجعت من فوري، وتم الحوار الذي نشره في مقاله الأسبوعي بعنوان «لقاء مع اللجنة الثقافية».
وخلال الحوار، كلم سكرتيرته «فوزية».. «اطلبي لي عبدالملك»، ودخل عبدالملك ووقف جانباً بجوار مائدة الحوار، وسألنا الأستاذ: «تعرفوا مين ده»؟ وأجاب «إنه أستاذكم عبدالملك عودة»، واستكمل ما ود أن يقوله للدكتور!
ثم كان اللقاء الثاني عام 1973، إذ طلب مني أستاذي القدير الدكتور أحمد عبدالرحيم مصطفى – أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر – أن أرتب لقاء مع الأستاذ هيكل له، وللصديق المشترك عبدالخالق لاشين.. الذي كان قد انتهى من مناقشة رسالته للدكتوراه، عن سعد زغلول ودوره في الحياة السياسية المصرية، ثم تعاقدت معه دار المعارف – التي كانت آنذاك تحت إشراف الأهرام – لنشر الرسالة في كتاب، ثم فوجئ بالدار تقول إنها أجَّلت النشر، بما يعني المصادرة.
وذهبنا ثلاثتنا إلى الأهرام، واستقبلنا الأستاذ هيكل، وكانت المفاجأة المدهشة وأيضاً المفرحة لنا، إذ ضحك الأستاذ من حكاية المصادرة، وقال: لقد نجحنا في خطة الترويج للكتاب.. قبل صدوره، وأظن أن توزيعه سيكون مرتفعاً. وتكرر مشهد الدكتور عبدالملك.. «يا فوزية استدعي لي حسن باشا»! ودخل حسن باشا يوسف – نائب رئيس الديوان الملكي أيام فاروق، الذي عيّنه الأستاذ في الأهرام في موقع يتعلق بالوثائق والتاريخ – ووقف الباشا عاقداً يديه أمام بطنه: «أفندم يا أستاذ هيكل؟»، وجاءه الرد: «يا حسن، عاوزك تُطلع الدكتور أحمد عبدالرحيم على كل ما لدينا من وثائق بريطانية وغيرها، وأن توالي تزويده بما هو «موست أب تودات».. من الدوريات التاريخية العلمية، لأنه سيؤسس مركزاً للدراسات التاريخية في الأهرام. وودعنا الأستاذ كعادته إلى الباب! ولم تتم مهمة التأسيس للدكتور أحمد عبدالرحيم، وذهبت للدكتور محمد أنيس. وتلك قصة أخرى عايشتها.
وترك الأستاذ هيكل الأهرام عام 1974. وكعادة ذوي الأصول الفلاحية، قررت أن «أطب عليه» – في منزله بعمارة مرشاق، المجاورة للشيراتون.. على الشاطئ الغربي للنيل في الدقي – وفتح سكرتيره منير عساف الباب، وسأل: نعم؟! وقلت: «عاوز أقابل الأستاذ هيكل». فرد: «طيب.. فيه ميعاد؟»! وأجبت بالنفي. وأردفت: «بس قول له فلان بتاع جامعة عين شمس».
… كان الصديق منير يجلس في الصالة – أمام آلة كاتبة – وأمامه تليفزيون، يتمدد حسن هيكل على الأرض ويشاهده! ودخل منير، وخرج لأجد الأستاذ بنفسه.. فارداً مرفقيه.. علامة الترحيب. وكان أول سؤال: «أنت ما خفتش إنك تيجي هنا»؟! ومنذ 1974 إلى أن انتقل، لم تنقطع لقاءاتنا الدورية. وفي كل مرة.. كان الحوار، وكنت أتعلم، وأختلف، وأمارس «الرذالة» أحياناً.. بأسئلة وتعليقات، كانت ملامحه تتغير منها، وأحياناً كان يرد السؤال بسؤال.
كانت لقطتا الدكتور عبدالملك وحسن باشا، دافعاً لأفهم.. هل هو يتعمَّد إهانة كبار أمام صغار، أم كان يفخر أمام الصغار – أمثالي – بأن معاونيه من الكبار، ومن العقول المحترمة والخبرات المعتبرة، بل ومن نجوم العصر.. الذين جعل من الدور السادس مقراً لهم، وكانوا باقة زاهية؛ فيها لويس عوض، وفيها صلاح طاهر الفنان المميز، وصلاح جاهين العبقري.. وبنت الشاطئ صاحبة المؤلفات الحضارية الإسلامية، وغيرهم من النجوم الزاهرة!
سألته عن النساء في حياته، وأردفت بأنني بحثت فوجدت! واستمع وضحك مقهقهاً!.. وسألته عن السبب الذي جعل الرئيس عبدالناصر لا يُطلعه على القرارات الاستراتيجية قبل اتخاذها، ورد.. واعترضت فرد السؤال بآخر: «تفتكر ليه»؟!.. وسألته عما يشاع عن علاقة له مع المخابرات البريطانية، فأصر على أن يعرف من الذي قال لي ذلك، وبعد ممانعة شديدة قلت: كامل زهيري!
وجاءت الإجابة مفصَّلة؛ فيها حقائق.. ممتزجة بالسخرية مني ومن كامل!.
وسألته عن دوره في أحداث مايو 1971 – التي أطاح فيها السادات بمن عُرفوا خطأ.. بمجموعة علي صبري أو جماعة مايو، وهم لم يكونوا كذلك – ثم.. مفاصل عديدة؛ فيها مفصل عن تنظيم ثورة مصر الذي ورد فيه اسم الصديق العزيز الدكتور مهندس خالد عبدالناصر، رحمة الله عليه.. ومفصل عن أسهم اشتراها الأستاذ.. في إحدى كبريات الصحف البريطانية.
… مفاصل أكتب عن بعضها في مذكراتي، وأتردد في كتابة بعضها الآخر.. رحمه الله رحمة واسعة.
نقلاً عن «الأهرام»