خالد عكاشة
لا خلاف في بروكسل – مقر الاتحاد الأوروبي، أو عواصم الدول الأعضاء – على حاجة اوروبا للدفاع عن نفسها بشكل أفضل. لذلك يتجدد الجدل – كل فترة – بين الدول الأعضاء، حول مقدار الإنفاق المطلوب على الدفاع. ومصادر هذه الأموال. وما إذا كان ينبغي إنفاقها بشكل مشترك.
الثابت أنه لا يزال من غير الواضح.. ما هي الأهداف التي ينبغي للاتحاد الأوروبي السعي لتحقيقها، أو كيفية إنفاق الأموال لتحسين القدرات الدفاعية الأوروبية. وبالإضافة إلى التمويل الجديد، فإن المطلوب قبل كل شيء.. هو الاتفاق على أهداف مشتركة، وهذا من شأنه أن يُمكِّن من استمرار دعم أوكرانيا؛ من خلال إنشاء سوق موحَّدة للأسلحة والخدمات، وتمويلها من ميزانية الاتحاد الأوروبي.
لهذا التصور – الذي وضعه المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية – محطة تاريخية سابقة، جاءت في وقت مبكر من 2016، حين شكك الرئيس ترامب علناً لأول مرة.. في الضمانات الأمنية الأمريكية لأوروبا، فحينها أخذت غالبية العواصم الأوروبية الحديث على محمل الجد، واختارت الدول الكبرى أن تقود ما يمكن اعتباره.. درجة استقلالية أكبر في سياسات الأمن والدفاع، بالسعي معاً إلى معالجة أوجه القصور في القدرات؛ من خلال التعاون الهيكلي الدائم، والقيام بالمراجعات الدفاعية السنوية المنسقة، لتحسين التعاون العملياتي بين القوات المسلحة، وتعزيز منظومة صناعات الدفاع الأوروبية.
ففي أعقاب الحرب الأوكرانية فبراير 2022، كانت دول الاتحاد جاهزة.. لاعتماد أول استراتيجية مستقلة لسياسة الدفاع في مارس من العام نفسه، أُطلق عليها «البوصلة الاستراتيجية»، وفيها تعهدت الدول بزيادة قدراتها العسكرية بشكل كبير بحلول 2030، إلى جانب القفزة النوعية التي تلت مباشرة إطلاق الاستراتيجية؛ التي تمثلت في الزيادة المستمرة للإنفاق الدفاعي، كما قام الاتحاد الأوروبي للمرة الأولى بتزويد دولة متحاربة ـ من خارج الاتحاد ـ بأسلحة فتاكة، فضلاً عن تدريب جنود أوكرانيين.. يشاركون في العمليات القتالية، وتُوجت تلك القفزة بالتمويل السخي لعملية الشراء المشتركة للمعدات العسكرية التي زُوِّدت بها «كييف».
في 2025، بات الاتحاد الأوروبي يستحث أعضاءه على الإسراع في إحداث تلك النقلة المرجوة في القدرات العسكرية؛ خاصة في درجة الاعتمادية التقنية والتمويلية المشتركة بين دول الأعضاء. فقد توافر أمام دائرة صناعة القرار الأوروبي العديد من المحفزات، التي تجعل «عملية التسريع».. أولوية قصوى في بروكسل؛ أولاهما: ما يشبه الإجماع لدى وكالات الاستخبارات الأوروبية، أن روسيا الاتحادية – خلال خمس سنوات وربما أقل – ستكون في وضع يسمح لها بشن حرب تقليدية على فضاء دول الاتحاد. وثانيهما: اتضاح معالم السياسة الانعزالية الأمريكية تجاه أوروبا، فيما بدا وكأن واشنطن تنأى بنفسها عن النظام الأوروبي.. ما بعد الحرب الأوكرانية، في الوقت الذي لا تتردد في ابتزاز شركائها في «حلف الناتو» بشأن عديد القضايا الأمنية.
لم يقتصر الأمر.. على حث ترامب للشركاء في قمة حلف الناتو يونيو 2025، بضرورة وحتمية وصول الدول الأعضاء إلى نسبة 5% من الناتج الإجمالي السنوي بحلول 2035، إنما الأهم أن وزير الدفاع الأمريكي.. أكد لنظرائه من دول الحلف، أن الولايات المتحدة لن ترسل قوات إلى أوكرانيا، لضمان وقف إطلاق النار.. بعد التسويات السلمية المرتقبة؛ معتبراً ذلك مسئولية الأوروبيين وحدهم، كما سيتعين عليهم تنظيم تلك المهمة. خارج نطاق «حلف الناتو»!
على غير ما هو شائع؛ وما تحاول إدارة الرئيس الأمريكي تصويره وترويجه طوال الوقت، الدول الأوروبية جادة في إحداث النقلة المرجوة في المنظومة الدفاعية الشاملة للدول أعضاء الاتحاد. فهناك حزمة قرارات جرى اعتمادها استباقياً قبل قمة «حلف الناتو»، بدأت في مارس 2025 بهدف تعزيز أمن الاتحاد الأوروبي، ملمحه الاستراتيجي الأبرز هو توسيع نطاق منظومات الدفاع الجوي والصاروخي للدول الأعضاء معاً، يستتبعه زيادة مخزون أنظمة المدفعية والصواريخ والطائرات المسيرة والذخائر المستخدمة في هذه الطرازات المتطورة.
هناك أيضاً عقود جرى التصديق عليها، وتوفير اعتماداتها.. من ميزانيات الدفاع؛ خاصة بشراء أنظمة دفاع ودعم استراتيجي لحماية «فضاء شنجن»، والبنية التحتية الحيوية، كما انخرطت أكثر من دولة أوروبية كبرى – مع شركاء ودول جوار جغرافي – في تحسين القدرة على الحركة العسكرية، بعد أن اعتمدت المفوضية الأوروبية خطط عمل شاملة.. لضمان أمن وفاعلية تنقل الأفراد والمعدات العسكرية، توفر استثمارات تبلغ (1.7 مليار يورو).. في ممرات متعددة الوسائط ومراكز لوجيستية، وتحديث رقمنة العمليات الإدارية ذات الاستخدام المزدوج المدني والعسكري، فضلاً عن رفع كفاءة الدفاع السيبراني واستخدامات الذكاء الاصطناعي في الحرب الإلكترونية.
أعقب الاجتماع الأخير لقمة حلف الناتو – وربما قبله بأشهر قليلة، عندما بدأت تتكشف التوجهات الاستراتيجية الأمريكية للإدارة الجديدة، وعلى خلفية ضغوط وتقديرات الحرب الروسية الأوكرانية.. وهي متغير استراتيجي بالغ الأهمية بالنسبة للفكر الأمني الأوروبي – أن بات التحول الاستراتيجي الأوروبي أمراً واقعاً ومفروغاً منه، ربما يبقى الاختلاف في المدى الزمني الذي ستستغرقه تلك النقلة، وطبيعتها التقنية.. فيما يخص الحجم المتوقع للوصول بهذه القدرات إلى الحد الذي يوفي، التعهد الصارم بتقليل الاعتماد الاستراتيجي على الولايات المتحدة، وأيضاً تعزيز الأساس التكنولوجي والصناعي للدفاع الأوروبي في جميع أنحاء دول الاتحاد الأوروبي.
في 19 مارس 2025، أصدر الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، ما سمي بـ«الورقة البيضاء» حول جاهزية الدفاع الأوروبي 2030، وقد فتحت النقاش بين الدول الأعضاء.. حول المهام الرئيسية التي ستترجم الاحتياج الأمني لدول الاتحاد.. إلى خطط عملياتية. هذه الترقية لمستوى التعاون الاستراتيجي الأمني لدول الاتحاد الأوروبي – خارج منظومة «حلف الناتو» – يدفع للتفكير في محيطنا الإقليمي.. عن شكل مماثل لفتح ملفات التعاون العربي الدفاعي المشترك.
الجانب الأوروبي يتعامل بجدية، وبفكر استراتيجي متطور.. أمام ما يعتبره مهددات روسية، ونحن هنا في الإقليم.. حيث المهددات الكامنة فيه تصافح وتزاحم المصالح العربية طوال الوقت، ووصلت لحد بالغ الخطورة.. بالنظر إلى ما يجري في غزة والسودان وحدهما، دون التطرق لتحديات أخرى لا تقل أهمية.
أليس هذا أواناً مناسباً وملحاً، لتفعيل فكر دفاعي استراتيجي جديد.. يتناسب مع ما يحيط بالإقليم والعالم من تفاعلات؟
نقلاً عن «الأهرام»