سمير مرقص..
(1)
تحليل ألكسندر دوجين للعهد الثاني من الزمن الترامبي
… في مقال الجزء الأول عن المُنظر الاستراتيجي الروسي «ألكسندر دوجين» (65 عاماً)، الذي وصفناه «بعقل بوتين».. كونه واضع الاستراتيجية الجيوسياسية المعروفة بـ«المدى الجغرافي الكبير» لانطلاقة روسيا «البوتينية» أو «الإمبراطورية القومية الروسية الجديدة: الأوراسية والعالمية»، تلك الاستراتيجية التي كان حصادها: أولاً:أن تُصفي روسيا كل أعباء الحرب الباردة.. التي أدت إلى تفكيك الاتحاد السوفيتي. وثانياً: المشاركة مع الصين والهند – إضافة إلى البرازيل وجنوب أفريقيا – في العمل على تأسيس جديد للمسرح العالمي.. يعزز الهدف الاستراتيجي، وهو إحداث تغيير نوعي في النظامين الاقتصادي والسياسي العالميين.
ويعكس ما سبق الاستراتيجية ثلاثية الأبعاد/العقائد – التي تبنتها روسيا البوتينية – وتتمثل في: أولاً:عقيدة استعادة الدولة. وثانياً: عقيدة فرض الاحترام. وثالثاً: عقيدة فرض التوازن الاستراتيجي. أو ما وصفناه في دراسة مبكرة بـ «التوسع الروسي الإمبراطوري القومي الجديد».. تمييزاً عن كل من التوسع الإمبراطوري القيصري التاريخي، والتوسع الإمبراطوري السوفيتي التالي.
بناءً على الخلفية السابقة، تأتي أهمية الرؤية الاستراتيجية/الدراسة المكثفة التي نشرها «دوجين» حول العهد الثاني من «الزمن الترامبي».. التي أطلق عليه: تسونامي أيديولوجي وجيوسياسي… Ideological & Geopolitical Tsunami، الذي يطرح فكرة جوهرية مفادها أن ولاية ترامب الرئاسية الثانية، سوف تختلف جذرياً عن ولايته الأولى؛ إذ ستشهد انقلابات جذرية في التوجهات الاستراتيجية والسياسات والخيارات، سيكون لها تأثيرات مُخلخلة كثيرة داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها (اعتمدنا على الترجمة الإنجليزية التي صدرت عشية حفل تنصيب ترامب يوم 20 يناير الماضي).
(2)
ترامب والدولة العميقة
في الحلقة الأولى عرضنا للعناصر الأساسية التي تتضمنها دراسة «دوجين» بالغة الأهمية، وفي حلقتنا الثانية.. نفصل بعض أهم ما جاء فيها. بداية ينطلق «دوجين» من سؤال حول مدى قدرة «التسونامي الترامبي الاقتصادي والسياسي» – في الداخل الأمريكي وخارجه – على الإفلات من «الدولة العميقة» Deep State، وذلك لتنفيذ «تسونامي المراسيم والقرارات» التي أقل ما توصف به أنها تصعيدية وثأرية حيال الإدارات الأمريكية السابقة وفي بعض الأحيان انقلابية، ليس على تلك الإدارات، فقط، وإنما على الأعراف والتقاليد التاريخية الاستراتيجية والمؤسسية التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية فيما يتعلق بشأنيها الداخلي والخارجي.
ويجيب «دوجين» عن سؤاله الأساس.. بتقديم تأصيل تاريخي للكيفية التي تشكلت بها الدولة العميقة، ومدى صلادتها.. التي تقوم على تحالف متين بين المؤسسات المحورية للدولة العميقة، والنخبة الاقتصادية والفكرية والسياسية، التي أخذت على عاتقها جعل الحلم – أو بالأحرى المشروع الأمريكي – حقيقة، وهو التحالف الحاكم الفعلي الموجه للتوجهات والسياسات من جهة، والمُلجم لأي خروج على المسارات.. التي من شأنها إعاقة هذا المشروع – الذي في حقيقته.. حلم المجمع السياسي الاقتصادي/ الصناعي العسكري – الذي يؤمِّن تفرُّد وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية، واستمرارية العولمة، والأولوية الأمريكية للتجارة الدولية العابرة للحدود، وديمومة الاقتصاد النيوليبرالي.
بيد أن المشروع الأمريكي الذي قاده تحالف: الدولة العميقة- النخبة الاقتصادية- المندوبون السياسيون للتحالف.. قد واجه مع مطلع القرن الواحد والعشرين عصياناً دولياً، انطلق من دول كثيرة في شتى القارات. ويؤصل «دوجين» لهذا العصيان، بأنه أعقب خطاب «بوتين»..الذي ألقاه في ميونخ عام 2007 والذي قال فيه إن: «أحادية القطب في العالم الحالي لم تعد مقبولة ولا ممكنة؛فالولايات المتحدة تُملي على الدول الأخرى نظامها الحقوقي. أما روسيا.. فدولة تاريخها يعود لأكثر من ألف عام، وامتازت – على مدى تاريخها – بإدارة شؤونها الخارجية بصورة مستقلة، ونحن لن نغير هذا التقليد اليوم». وهو الخطاب الذي شجَّع كثيراً من الدول على التمرد على الهيمنة الأمريكية، أو المشروع الأمريكي لتحالف الدولة العميقة واقتصادييها وسياسييها.
(3)
الترامبية تحكم: لماذا؟
في هذا السياق، انتُخب ترامب.. من خلال نخبة رأسمالية جديدة – قوامها الرأسماليون الرقميون وقاعدة اجتماعية عريضة من المحافظين الدينيين والاجتماعيين، والاستعلائيين البيض – تحت شعار: العمل على جعل أمريكا عظيمة مرة أخرى أو «MAGA» :«Make America Great Again من خلال: الحمائية التجارية، والقومية الأمريكية المتشددة، والمحافظة المتعصبة، والإثنية الاستعلائية البيضاء، والبراجماتية المفرطة، والديمقراطية الفاشية.
وهنا يلتقط «دوجين» لب الأزمة القائمة في الداخل الأمريكي، ومدى عمقها بين الدولة العميقة وحلفائها وبين «الترامبيين». فمن جانب أدركت الدولة العميقة وحلفاؤها.. أن حلمهم/مشروعهم يتعرَّض-بالفعل- للتهديد من قبَل الأقطاب/ المتمردين الجدد في العالم. وأن نخبتهم السياسية-الاقتصادية قد فشلت في لجم عصيان الأقطاب الصاعدة الجديدة؛ مثل الصين والهند وروسيا. ومن جانب آخر نجاح «الترامبيين» في العودة إلى الحكم مجدداً – من خلال تحالف مجتمعي من الشرائح شديدة المحافظة، ودعم النخبة الرأسمالية الرقمية التي تتحكم في رأسمال ضخم -ومن ثم قدموا أنفسهم باعتبارهم مبعوثي العناية الإلهية.. لإنقاذ المشروع الأمريكي. وهو ما اضطر الدولة العميقة منحهم فرصة أخرى، فهل سينجح «الترامبيون» – الذين وُصفوا بأنهم «أوليجاركية» جديدة (رقمية) – في إنقاذ المشروع الأمريكي. وهل تسمح الدولة العميقة، إنقاذاً للمشروع الأمريكي، بأداءات ترامب الجامحة أم ستتم مقاومته؟
نقلاً عن «المصري اليوم»