وجيه وهبة
«العرب ظاهرة صوتية».. عبارة بليغة موجزة ودالة، أطلقها الكاتب السعودي الراحل «عبدالله القصيمي»، واتخذها عنواناً لأحد مؤلفاته. فما أبعد المسافة بين أقوالهم وأفعالهم، بين ألسنتهم وقلوبهم. وما زالت العبارة سارية المفعول، صحيحة، بعد مضى أكثر من نصف قرن على إطلاقها.
■ تاريخ علاقات معظم البلدان العربية بعضها ببعض، منذ أن أصبحت دولاً، تاريخ مُبيّن عن علاقات مركبة ومعقدة، وهي في مجملها ــ إذا تلطفنا في الوصف ــ علاقات غير سوية. باطنها، في أغلب الأحوال، غير ظاهرها. متغيرة ومتقلبة. دول تتربص ببعضها البعض، ويتآمر بعضها على بعض. خلافات حدود بينهم لم ولن تُحسم، مؤتمرات و«مؤامرات» قمة.. و«اللي في القلب في القلب يا… جامعة الدول العربية».
أما العقلية الجمعية ــ ولا نستثني مصر ــ فهي عقلية إسناد أسباب الفشل المتكرر إلى عوامل خارجية، أما فشل العرب وهزيمتهم جميعاً، كوحدة جغرافية وذهنية واحدة، الفشل الحضاري والعسكري والسياسي، فسببه من وجهة نظرهم هو ـــ تلك «الحجة الفاسدة» ـــ «تآمر العالم أجمع عليهم!!»، ربما حقداً وحسداً أو خوفاً من أسلحتهم الفتاكة، مثل الدعاء على الأعداء، والتهديد والوعيد، والصراخ والعويل، واللسان الطويل.
■ في كتاب «المعارك الأدبية…» للراحل «أنور الجندي» ــ وهو العدو اللدود لأفكار «طه حسين» ــ يروي الكاتب حكايات عن معركة أنصار «القومية العربية» مع «عميد الأدب العربي». ففي مقال للعميد، في جريدة «كوكب الشرق» (عام 1933)، وردت فيه عبارة أثارت جدلاً واسعاً على صفحات الصحف والمجلات المصرية والعربية. والعبارة هي: «إن المصريين قد خضعوا لضروب من البغض وألوان من العدوان جاءتهم من الفرس واليونان وجاءتهم من العرب والترك والفرنسيين».
قامت الدنيا على «العميد» ولم تقعد. لم يغضب «الفرس» ولا «الترك» ولا «اليونان»، ولا «الفرنسيين»، ولكن غضب الكثير من العرب، ومن أبناء وطنه من المصريين، مستنكرين أن يساوي «عميد الأدب العربي» بين الغزو العربي لمصر، وباقي الغزاة المحتلين الطامعين في «مصر» وخيراتها. كان «العميد» يتكلم عن تاريخ غابر، عن سلوك الغزاة لا عن عقيدتهم أياً كانت. ولكن هيهات أن يفهم المزايدون والمغرضون المغرمون بالعبارات البلاغية، لا الحقائق التاريخية. ثاروا واتهموا «العميد» ــ عن غير حق ــ بأنه يدعو إلى «فرعنة مصر». بل وطالب البعض في «دمشق» بمقاطعة كتبه وإحراقها، أسوة بما فعل النازيون في ذات العام، من إحراق كتب «ماركس» و«فرويد» و«بريخت»، وغيرهم من العشرات من المفكرين والكتاب المبدعين. ولا ننسَ التأثير الكبير للنازي «هتلر» والفاشيست «موسوليني»، على الكثيرين من «النخبة» العربية والمصرية في تلك الآونة.
■ ويذكر «أنور الجندي» كيف عاد «طه حسين» عام 1938 مرة أخرى إلى معارضة القومية العربية والسخرية من الوحدة العربية، عندما أدلى بتصريحات إلى مجلة «المكشوف» اللبنانية، ورد فيها قوله: «إن الفرعونية متأصلة في نفوس المصريين وأنها ستبقى كذلك بل يجب أن تبقى وتقوى». «وأن المصري مصري قبل كل شيء فهو لن يتنازل عن مصريته مهما تقلبت الظروف». «ولا تصدقوا ما يقوله بعض المصريين من أنهم يعملون للعروبة فالفرعونية متأصلة في نفوسهم، وستبقى كذلك».
«إن الأكثرية الساحقة من المصريين لا تمت بصلة إلى الدم العربي بل تتصل مباشرة بالمصريين القدماء». «إن تاريخ مصر مستقل عن تاريخ أي بلد آخر». «لو كان للغة وزن في تقرير مصير الأمم لما كانت بلجيكا ولا سويسرا ولا البرازيل ولا البرتغال».
مرة أخرى انهال الهجوم على «العميد» من كل حدب وصوب. ورد «العميد» في حديث له أجرته مجلة «زهرة المشرق» (أول يناير 1939) جاء فيه إنه مع الوحدة «الثقافية» و«الاقتصادية» وليس مع «الوحدة السياسية». كما جاء في رده أيضاً: «… إن المصريين لا يتصورون اشتراكهم في إمبراطورية عربية مهما يكن مستقرها ومهما يكن شكلها ومهما تكن نظم الحكم فيها، لا يتصورون إلا أن يكونوا دولة مستقلة معاونة لغيرها من دول الشرق العربي بأسباب المعاونة السياسية المعقولة التي تلائم المنفعة والحق والعدل، وما أرى أن عليهم في ذلك بأساً. وما أرى أن أحداً يستطيع أن يطالبهم بأكثر من ذلك. وما أرى أن مطالبة أحد بأكثر من ذلك نفعاً لأحد، وإنما الكلام في ذلك لغو وإطالة لا غناء فيهما».
ويواصل «العميد»:
«ومن الناس من ينكر على مصر حرصها على تراثها الفرعوني القديم ويشوهون هذا الحرص ألواناً من التشويه، فليكن رأيي في ذلك واضحاً جلياً وهو فيما أعتقد رأي المصريين جميعاً لا يختلفون فيه، فمصر حريصة على تاريخها كله لا تنزل عنه عن قليل أو كثير وهي إذا حرصت على تاريخها الفرعوني لا تريد أن تعود إلى دين الفراعنة. فهذا سخف، ولا تريد أن تتكلم اللغة المصرية القديمة مكان اللغة العربية فهذا سخف أيضاً ولا تريد أن تصطنع نظم الحكم الفرعوني مكان نظمها الديمقراطية الحديثة. وإنما تريد أن تنظر إلى هذا التاريخ بما كان فيه من خير وشر على أنه جزء من حياتها ومقوم لوحدتها ومكون لوطنيتها، تفخر بما يدعو منه إلى الفخر، وتألم بما يدعو منه إلى الألم وتعتبر بما يثير منه العبرة وتنتفع بما يمكن أن يكون مصدراً للنفع، وكل مصري يزعم غير هذا فهو إما خادع أو مخدوع أو ضعيف الوطنية وما أعرف أن من المصريين من تضعف وطنيته فيفرط في تاريخه أو تضعف أخلاقه فيؤثر الخداع أو تضعف شخصيته فينخدع بتمويه الموهمين».
وللحديث بقية.
نقلاً عن «المصري اليوم»