د. نيفين مسعد
تناول مقال الأسبوع الماضي النموذج الذي حكم علاقة مصر بدولتَي الجوار تركيا وإيران.. في فترة حكم عبدالناصر، وكيف أن هذا النموذج.. الذي تساوت فيه علاقة مصر بالدولتين، من حيث التوتر الشديد؛ اختلف عن نماذج العلاقة بين الأطراف الثلاثة في الفترات الزمنية التالية؛ حيث عادةً ما كانت العلاقة تتوثق مع إيران دون تركيا أو العكس. ويناقش مقال اليوم 3 مقولات وردَت في الورقة القيمة التي قدمها الدكتور محمد السعيد إدريس.. إلى لقاء يوليو الفكري الثالث بعنوان «عبدالناصر والجوار الإقليمي: رؤية مستقبلية».
وأولى هذه الأفكار.. هي الفكرة الخاصة بأن عبدالناصر سعى لإقامة «محور للقوة الإقليمية» – يقصد به بين مصر وتركيا وإيران – على أساس أنه سيكون الأجدر بتحقيق «الأهداف الكبرى للثورة المصرية.. بتطلعاتها القومية والإقليمية». ويُفهم من ذلك أن عبدالناصر كان يعول على الدين.. في بناء تحالفاته الإقليمية، وهذه مسألة تحتاج لإعادة نظر، فهناك فرق كبير بين نظرة عبدالناصر للإسلام – باعتباره قوةً روحيةً أو قوةً دافعةً وثورةً.. على حد تعبيره – وبين رفضه المعلن والواضح لتوظيف الدين في السياسة. وبالتالي فإن المحرك الأساسي لعلاقات مصر الخارجية في الخمسينيات والستينيات.. كان هو موقف الدول المختلفة من قضية التحرر الوطني، وهذا محرك سياسي لا ديني.
وهذا يفسر لنا، لماذا ساند عبدالناصر قبرص في مواجهة تركيا، وساند الهند في مواجهة باكستان؛ لأنه بينما كانت قبرص تدافع عن استقلالها.. الذي انتزعته من بريطانيا، وكانت الهند شريكاً لمصر.. في تأسيس حركة عدم الانحياز، فإن تركيا وباكستان كانتا جزءاً من حلف بغداد؛ المُوَجَّه ضد المدّ السوڤيتي والهادف لربط الشرق الأوسط بالغرب.
وعندما ظهرت فكرة المؤتمر الإسلامي، انتقدها عبدالناصر.. وأطلق على المؤتمر اسم الحلف الإسلامي، وكانت له خطبة شهيرة بهذا الصدد، رفض فيها استغلال الدين في السياسة، مؤكداً أن مناقشة الدين هي من اختصاص علماء المسلمين، ومجالها متاح في مقر الأزهر الشريف أو مكة المكرمة أو المسجد الأقصى وليس في مؤتمر لزعماء الدول الإسلامية. هذا الموقف الواضح لجمال عبدالناصر كان سبباً أصيلاً من أسباب هجوم التيارات الإسلامية عليه، والمقارنة بينه وبين السادات الذي اتخذ لنفسه لقب «الرئيس المؤمن».. قبل أن ينتبه – هو نفسه فيما بعد – إلى خطورة خلط الدين بالسياسة، ويقول قولته الشهيرة «لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة».
الفكرة الثانية – التي طرحها دكتور إدريس في ورقته – هي أن عبدالناصر كان يشعر بفداحة المخاطر التي يمثلها الشاه محمد رضا بهلوي.. بالنسبة لمشروع الوحدة العربية، بأكثر مما كان يشعر بذلك مع تركيا. واستشهد كاتب الورقة على ذلك بحديث دار بين الشاه وبين محمد حسنين هيكل، شرح فيه هيكل للشاه.. أن عبدالناصر كان يخشى كسر الحصار حول إسرائيل.. إذا لحقت إيران بتركيا في الاعتراف بإسرائيل. ويُرجع إدريس إلى هذه الخشية.. إقدام عبدالناصر على دعم محاولة المعارضة الإيرانية، والثورة على الشاه في عام 1963. وعدم قيامه بالشيء نفسه مع تركيا.
هذه النقطة أيضاً تحتاج إلى مناقشة من زاويتين؛ الزاوية الأولى هي مقارنة عبدالناصر بين الخطر الذي تمثله كلتا الدولتين على مشروع الوحدة.
وفي الواقع فإن تركيا كانت شديدة العداء لوحدة مصر وسوريا، وهناك دراسة ممتازة للباحثة ولاء عبدالسلام.. تشرح فيها بالتفصيل موقف الإعلام التركي من الجمهورية العربية المتحدة، واتهام سوريا بالتبعية لمصر.. وفقدان استقلالها باتحادها مع مصر. وإذا كانت إيران الشاه قد مثلَت تهديداً لدول الخليج العربي، وأعربَت عن أطماعها في البحرين، فإن تركيا حشدَت قواتها على الحدود مع سوريا، وكان ذلك من أسباب التعجيل بإنجاز الوحدة مع مصر.
وعندما انسحب العراق من حلف بغداد بعد قيام ثورة 1958.. نسّقت تركيا مع بريطانيا لمعاقبة العراق. أي أن كلاً من إيران وتركيا.. كانت معادية للمشروع القومي العربي – فالأولى فارسية، والثانية تركية – وكان لكل منهما أطماعه التوسعية في جواره الجغرافي؛ الخليج العربي بالنسبة لإيران والهلال الخصيب بالنسبة لتركيا.
أخيراً فإن علاقة إيران بإسرائيل قديمة، وكون محمد مصدق أقدم على تجميدها – أثناء رئاسته الحكومة من 1951 إلى 1953 – فقد عادت المياه إلى مجاريها في عام 1960، وهذا يعني أن هذا توجه أصيل لشاه إيران، ولا تأثير عليه من جانب تركيا.
أما الزاوية الثانية في مناقشة فكرة الخطر الإيراني.. كمبرر لدعم مصر المعارضة الوطنية، فإنها تتلخص في أن إيران كانت لديها معارضة.. متعددة الوجوه الدينية والمدنية والعشائرية؛ مما سهل التواصل معها.. للتخلص من نظام رجعي مرتبط بالاستعمار الغربي.. كما كانت ترى مصر آنذاك. وهذا وضع يختلف تماماً عما كان عليه الحال مع تركيا، حيث كانت المؤسسة العسكرية هي المحرك الأساسي للتغيير.
الفكرة الثالثة – والأخيرة – هي ما ذهب إليه الدكتور إدريس من أن القوى الناصرية، عليها أن تستلهم الإدراك الناصري المبكر.. «لضرورة التأسيس لمشروع تكامل إقليمي مصري- إيراني- تركي- يؤسس لمشروع حضاري نهضوي، يجمع الأمم الكبرى الثلاث.. التي أسست للنهضة العربية-الإسلامية». هنا ننتقل من تفنيد مقولة.. إن عبدالناصر كان يسعى لتحقيق تكامل مع دولتَي الجوار الأساسيتين، إلى مناقشة كيف يمكن إدارة مصر علاقاتها مع هاتين الدولتين. وهنا يجدر بنا التمييز بين حاجة مصر للتنسيق مع تركيا وإيران.. بالبناء على ما هو مشترك معهما، وإدارة ما هو مختلف عليه – وهو أمر ضروري ومطلوب بشدة – وبين الدعوة لتكامل إقليمي بين الأطراف الثلاثة.. وهذا محل شك؛ فالتنسيق مهم، وهناك مجالات كثيرة له. ومنها مثلاً.. موقف إيران من دعم القضية الفلسطينية، وهو الموقف الذي دفعت بسببه أثماناً باهظة، كما أن المجال الاقتصادي مفتوح.. للتنسيق (بل للتطوير) المستمر مع تركيا.
لكن التكامل الإقليمي صعب، لأننا في الواقع إزاء 3 مشاريع مختلفة.. في المنطقة، وهناك تناقضات حقيقية بين مصر وكل من إيران وتركيا.. في عدد من الساحات العربية. وهي ملاحظة تصدق بالأساس على العلاقة مع تركيا، بأكثر مما تصدق على العلاقة مع إيران.. بسبب تحجيم التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية العربية في الفترة الحالية. وتحتاج إدارة تناقضات المصالح.. إلى الحكمة، والتنسيق والتشاور الدبلوماسي، وإدراك أن هناك مشروعاً صهيونياً بالغ الخطورة.. يريد ابتلاع الشرق الأوسط كله؛ بعربه وتُرْكِه وفُرْسِه.
وفي الأخير، فإن موضوع العلاقة مع دول الجوار.. يحتاج إلى أن يكون محل نقاش عربي-عربي لا مصري-إيراني-تركي فقط. ومن التفاصيل التي يمكن مناقشتها.. إعادة دراسة فكرة رابطة دول الجوار؛ التي طرحها السيد عمرو موسى قبل 15 عاماً. وتنشيط المسار الثاني Track 2 مع دولتَي الجوار، بما يشمل مختلف مكونات المجتمع المدني العربي، وبما يساعد على تحقيق التقارب.
نقلاً عن «الأهرام»