عبدالله عبدالسلام..
في 18 مارس الماضي، نشر الأرشيف الوطني الأمريكي.. أكثر من 80 ألف وثيقة، تتعلق باغتيال الرئيس الأمريكي جون كينيدي؛ تنفيذاً لوعد الرئيس ترامب، بالكشف عن جميع الملفات المرتبطة بتلك الحادثة التاريخية. نشرت الصحافة والإعلام.. أبرز ما جاء في الوثائق، لكن عشرات الباحثين عكفوا على دراسات معمقة وتفصيلية.. للتعامل معها بالشكل الذي يضعها في سياقها وأهميتها. ومن المتوقع صدور مؤلفات عديدة.. اعتماداً على تلك الوثائق.
في المقابل، فوجئ المصريون والعرب.. ببث مقاطع تسجيلية مُسرَّبة، بصوت الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، يتحدث فيها عن القضية الفلسطينية، ومواقف بعض الزعماء العرب.. بكلمات بدت، كأنها تناقض التوجهات المعروفة عنه.
البعض اعتبر أن عبدالناصر بهذه المواقف – التي جرى اختزالها – في عبارة قالها: «اللي عايز يناضل يناضل»، كان يمهد بشكل أو بآخر.. للسلام مع إسرائيل.
البعض الآخر تساءل.. عن التوقيت والهدف والمستفيد. لكن – بغضِّ النظر عن تلك التأويلات – يثور التساؤل: لماذا نتعامل مع زعمائنا بهذه الطريقة.. التي تنظر إليهم كما لو كانوا «تريند»، يجذب ملايين المشاهدات، ويثير ضجة «فارغة»، ويُدر دخلاً للمسؤول عن التسريب.
جاء التسريب مبتوراً، ومقطوع الصلة بكل التطورات التي رافقته. من سرَّب، لم يدرك الفارق بين تصريحات لها خلفياتها وتداعياتها.. بشأن قضية وطنية وقومية كبرى، يتحدث بشأنها الزعيم الأهم في تلك المرحلة الخطيرة من التاريخ العربي، وبين «فرقعات» يطلقها شخص «غاوي شهرة».. يصفق لها البعض، ويُشبع آخرون صاحبها نقداً وذماً.
كنت أتمنى.. لو أن هذا التسريب قد خضع لدراسة علمية تاريخية، يشرف عليها مجموعة باحثين متخصصين.. لدراسة تطور رؤية عبدالناصر لحل القضية الفلسطينية، وهل كانت هذه التصريحات.. بداية للتوجه الذي ساد بعد ذلك في عهد الرئيس السادات، أم أن الأمر مختلف. وأعتقد أن من سرَّب، لديه تسجيلات صوتية أخرى، ونسخ من وثائق رسمية عديدة.. مكتوبة في هذا السياق.
هذه القضية تفتح الباب لتساؤلات أخرى، تتكرر منذ عشرات السنين، ولا تجد إجابة. من يمتلك وثائق الحكم والسياسة في مصر غير الجهات الرسمية؟ وإلى متى لا يتم الإفراج الرسمي عن تلك الوثائق، رغم مرور أكثر من نصف قرن.. على الأحداث المتعلقة بها؟ وكيف نضمن أن من لديه وثائق – من الأشخاص والجهات غير الرسمية – سيتحلى بالموضوعية، ولا يمارس الانتقائية؟
تتردد كثيراً.. مقولة أن المؤرخين ليسوا محايدين، لكن من المفترض أن يكونوا موضوعيين. الشاهد.. أنه في ظل غياب فرصة الاطلاع على نسبة معتبرة من الوثائق الرسمية لتاريخ مصر الحديث، فإن «الأرشيفات الخاصة» – وليس «الأرشيف الوطني» – أضحت تفرض رؤيتها وبوصلتها.. على تاريخ ثورة يوليو تحديداً. وللأسف، بعضها ليس محايداً ولا موضوعياً.
يصعُب علينا أن نرى زعماء مصر.. وقد تحولوا إلى «تريند». وأتصور أن الرئيس عبدالناصر – لو كان حياً – لشعر بالاستياء الشديد.. من طريقة التعامل مع مواقفه، خاصة في سنواته الأخيرة، وأعتقد أنه كان سيطلب معرفة ظروف وملابسات تصريحاته أولاً، قبل ممارسة الابتسار والانتقائية معها، ثم وضعها على اليوتيوب.
ويا من لديكم وثائق على هذه الشاكلة.. ليس بهذه الطريقة تخدمون مصر، ولا عبدالناصر.
نقلاً عن «المصري اليوم»