أحمد الجمال
ارتبطت نشأة الملكيات الكبيرة، أو يمكن أن نسميها تجاوزاً الرأسمالية الزراعية، في فترتي محمد علي باشا وسعيد باشا؛ بالظلم الممعن في التنكيل بالفلاحين، الذين كانوا يحوزون أراضي زراعية وبالأُجراء المعدمين.. على النحو الذي ذكرته في مقالات سابقة واستقيته من مراجع علمية اعتمدت على مصادر موثقة، وفي مقدمة تلك المراجع مؤلفات الدكتور علي بركات والدكتورة زينب أبو المجد. ولم أشأ أن أستقي مما عاشه أهلنا الفلاحون، ورأيت بعضه بنفسي، أو رواه لي ثقات لا يكذبون، لأن التاريخ الشفهي أو شهادة المعاصرين تُعد «مادة خام» يلزمها صهر علمي باستخدام الأدوات المنهجية.. المستقر عليها في علم مناهج البحث.
وكانت نتيجة ما جرى هي نشأة وتعمق كراهية الناس لتلك الشريحة، وامتد ذلك إلى أن يلحق بأصحاب الأموال والرأسمالية العقارية والصناعية والتجارية، وسادت حالة من التعميم ليصير الحكم شاملاً «العاطل على الباطل» كما يقول اللسان الشعبي. وبالطبع فإن الوجه المتمم لهذا الظلم هو غياب أية حماية اجتماعية أو عدل اجتماعي.. ليصبح تطور ما يسمى تجاوزاً بـ «الرأسمالية المصرية».. تطوراً مشوهاً ومبتسراً، لأن ممثليها أو طبقتها لم تلتفت إلى التطور الرأسمالي الأوروبي، الذي شهد محطات عديدة كانت فيها اضطرابات وثورات اجتماعية، ليصل إلى حتمية التوازن.. بين مصالح قوة رأس المال وبين قوة العمل، وتصبح علاقات الإنتاج محفزة لمزيد من التطور.
ثم إنني استقرأت من تلك المراجع أمراً ذا وجهين، والأمر هو الحراك الاجتماعي الفلاحي.. الرافض للظلم والتعدي؛ والوجه الأول له: هو اللجوء لمحاولة التفاهم وتحكيم القانون والأعراف، وعندما يفشل المُلاك الكبار الجدد في هذه المحاولة يكون العنف الشديد. والوجه الثاني: هو اللجوء للدين ورموزه.. من فقهاء وعلماء ومشايخ تصوف وأولياء صالحين، ومن ثم تحتدم النزعة الطائفية وتتعمق، وتصبح درعاً ورمحاً.. خاصة إذا كان الطرف الآخر من المنتمين لدين أو طائفة مغايرة، وعليه يمكن أن أستقي أحد قوانين حركة المجتمع المصري، وأصوغه بما فحواه.. أن اللجوء للأطروحات الدينية – أو الطائفية – المتسمة بالتدين الجاهل، هو في الأصل جزء من تلمُّس الحماية الاجتماعية والاقتصادية.. في مواجهة ظلم واعتداء أصحاب الأموال والنفوذ. وسيبقى ذلك سارياً.. ما دامت عوامل ومظاهر غياب سيادة القانون واكتمال المواطنة مستمرة.
ولقد وجدت في سياق ما كتبته الدكتورة زينب أبو المجد عن ثورة عام 1864 التي نشبت في قرية السليمية بقنا؛ ما يؤكد ما أذهب إليه حول دور الطائفية في الصراع الاجتماعي-الاقتصادي. لقد اعتمدت الدكتورة زينب على مصدر من الدرجة الأولى.. هو شهادة «ليدي جوردون» البريطانية التي أقامت في الأقصر، أثناء أحداث الثورة.
وقد روت ليدي جوردون سبب اندلاع الثورة. وهنا أنقل بالنص: «سبب اندلاع شرارة الثورة، هو حادثة تورط فيها رجل من أثرياء الأقباط، ثم انتشرت كالنار في الهشيم عبر المديرية، ونظراً لأن الأقباط آنذاك.. عملوا في العادة مع الأوروبيين وأصابوا الثروات، فقد حقد عليهم بعض الأهالي من الفقراء، وتذهب القصة إلى أن رجلاً قبطياً غنياً.. امتلك جارية مسلمة متدينة وتقرأ القرآن، وأراد أن يتخذها محظية له، ورفضت الفتاة؛ لأن الشريعة الإسلامية لا تسمح لغير المسلم بامتلاك مسلمة، وذهبت الفتاة إلى أحمد الطيب، الذي عرض على القبطي مالاً كي يعتقها.. فرفض القبطي، وأصر على حقوقه مدعوماً من الحكومة، عندها أعلن الطيب التمرد» – كما أوضحت جوردون – وبالمناسبة، فإن كتاب جوردون هو Duff-Gordon, Letters From Egypt. «وبدأ التمرد فعلياً بهجوم من المتمردين على قارب يملكه تجار يونانيون، واستطاع أربعون من المتمردين سلب محتويات القارب وقتلوا موجه الدفة».
والتفاصيل بعد ذلك كثيرة جداً، نستطيع أن نقرأها.. لنجد مصداقاً لما ذهبت إليه حول نشأة الكراهية، وغياب الحماية الاجتماعية، وكيف يتم اللجوء للدرع الديني الطائفي. ولن أستطرد للوصول إلى مرحلة انفتاح السداح مداح – قبيل منتصف السبعينيات من القرن العشرين – وقد عشناها وعرفنا حجم الفساد والمظالم.
نقلاً عن «المصري اليوم»