عادل نعمان
يُعتبر التدين الظاهري أو الصوري، الذي يعتمد على الشواهد والشكل دون الجوهر، ويسرف في إقامة الطقوس التعبدية والمظاهر الدينية دون الجوانب الروحية والمعنوية.. أحد أهم المظاهر السلبية التي رافقت الصحوة الإسلامية. وهذه الصحوة، يعتبرها تيار الإسلام السياسي بداية يقظة الأمة من سبات عميق، وكأن الإسلام قبل الصحوة.. كان في غفلة وغفوة. بل إن هذا السلوك الشكلي.. يراه البعض مقدمةً مقبولةً للسلوك القويم، على منطق (المهم نبدأ.. حتى لو نفاقًا، فسيأتي يوم ويفيق فيه الإنسان إلى الصواب.. ولا يأتي هذا اليوم أبدًا).
ولما سأل سائل عن عدم قدرته على ترك الخمر، إلا أنه مواظب على الصلاة، أجابه شيخه.. (هذه نقرة وتلك نقرة أخرى) فكان يشرب ويصلي، وغيره يسرق ويزكي، وغيرهما كثير يعيثون في الأرض فسادًا، ثم يتوبون في حجتهم.. ليعودوا كما ولدتهم أمهاتهم كل عام. وكذلك يفعلون!!.
وامتلأت المدن والقرى والنجوع بالمساجد والزوايا، فاقت في أعدادها المدارس والمستشفيات مرات ومرات. وتشابكت أصوات الميكروفونات وتقاطعت.. بين صوت هادئ وآخر منفر، يدعون الناس للصلاة من الفجر حتى العشاء. وغطى الحجاب والنقاب رؤوس الغالبية من النساء، وتكاثرت أعداد الحجيج والمعتمرين، وازدانت السيارات والمكاتب والبيوت بكتاب الله، وتعالت أصوات القراء يتلون آيات الذكر الحكيم.. في الأتوبيسات والقطارات والنوادي والمحلات والمولات، وطاردنا المفطر في الشوارع.. حتى لو كان معذورًا أو مرخصًا له بالإفطار، ونرميه بالجحود والنكران. وتركنا أعمالنا ومصالح الناس، وافترشنا طرقات المصالح الحكومية لإقامة الصلوات بالساعات، حتى لترى من فرط التدين.. أن الملائكة تسير بيننا، تبارك العباد وتحفظ الأرزاق والأعمار، وأتساءل: ومن منا الكذاب والفاسد والحرامي والمتحرش وآكل مال اليتيم، إذا كان المجتمع كله قد أضحى على هذه الدرجة من التدين؟!
الغريب، أن هذا التدين الشكلي – الذي نحى الجوهر والمضمون جانبًا – قد أصبح معيارًا معتبرًا للحكم على أخلاقيات الشخص وانضباطه والتزامه، حتى وجدوا حديثًا ضعيفًا مدسوسًا «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان»، وقد كان المنافقون في العهد النبوي.. يعتادون المساجد أكثر من غيرهم، منهم يعرفهم الرسول ومنهم لا يعرفهم (وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ…)، وقد كان خوارج الإمام علي بن أبي طالب أكثرهم قراءةً للقرآن، ومواظبةً وتشددًا في إقامة الشعائر والعبادات، حتى من قرر منهم قتل الإمام علي ومعاوية.. قد اعتمروا واعتكفوا في المسجد الحرام خمسة عشر يومًا، ثم توجهوا لقتلهما، والناس وقوفًا عند هذا، ويسلمون لهؤلاء تسليمًا؛ وهو أمر يحتاج إلى مراجعة. إن الخدعة والمكيدة لا تقف عند أبواب الخمارات والبارات، بل تقف أيضًا على أعتاب دور العبادة.. تفتح ذراعيها، وهذا هو الأسهل والأقنع، وكم من أعمال نصب واحتيال وسرقة تمت تحت هذا الغطاء، ولو سألت لسمعت عجبًا، وقد ظن المتدينون أن هذا التدين والإسراف في العبادات.. أضحى رخصةً لصاحبها في مزاحمة المعاملات بين الناس، فترى الناس يتعاملون معه بثقة.. على أنه من أهل الله، وربما ليس كذلك!!، ويأتمنونه ولربما ليس بأمين!!.
والناس ليست متدينةً بطبعها، أو الشعوب.. كما يظن البعض، فلو كانوا متدينين بطبيعتهم، لحصنهم تدينهم هذا عن السيئ من الأفعال؛ لكنهم مقيمون للشعائر فقط، ومفرطون فيها أشد ما يكون الإفراط.. زعمًا أنها ترفع الخطايا، وتحط الحسنات، وكلما زاد في الاثنين معًا كان للحسنات النصيب الأوفى، صديقي كان يحدثني عن موظف في جهة ما.. كان يطالبه برشوة عشرة آلاف جنيه، لينهي له مصالحه في أرض صناعية، وأثناء التفاوض.. نودي لصلاة الظهر، فسحبه الموظف من يده وقال له (تعال نصلي وبعدين نكمل كلامنا).. وسط استعجاب وذهول صاحبنا. قلت له هون عليك (هذه نقرة وتلك أخرى) لعنة الله على المخرفين والمحرفين.
فإذا ما أضفنا إلى هذا المسلسل.. توزيع الدرجات الاجتماعية على القوم؛ مؤمن وغير مؤمن، وهي درجة من درجات السلم الاجتماعي.. لا سعي فيها ولا اجتهاد ولا علم ولا دراسة ولا جهد يذكر، يكفي فقط جلباب قصير ولحية ومواظبة على إقامة الشعائر.. تحت سمع وبصر الناس. وهذا هو الأهم، حتى تحصل على درجة مؤمن، فترى من ألوان التدليل ما لم يحصل عليه عالم في الطب أو الهندسة، وترتفع في السلم الاجتماعي.. إلى ما شاء تدينك الصوري أن يعلو ويرتفع. الكارثة.. أن هذا المجتمع المتدين شكلًا، قد غيب – عن جهل – القواسم المشتركة أو المشتركات الاجتماعية للمصريين، بل وتم إقصاؤها عن عمد. واعتمد الإيمان والكفر والحلال والحرام.. قواسم حادةً قاطعةً؛ لا تقبل مزاحمة قواسم اجتماعية – خاصةً مجتمعيةً – لا صلة لها بالدين؛ كالمواطنة والقانون والحضارة والتراث، وما يتوافق عليه المجتمع، وهي قواسم مجتمعية خاصة.. أساسية في تسيير عجلة المجتمع.
وللحديث بقية. (الدولة المدنية هي الحل).
نقلاً عن «المصري اليوم»