عبدالله عبدالسلام
نادر هو.. إلى درجة الانقراض، نموذج الأديب العظيم صُنع الله إبراهيم.. الذي رحل أمس، بعد صراع مع المرض.
في الغرب، ستجد الأديب والمبدع.. صاحب الموقف، بل المتمرد.. الذي يقول كلمته ولا يمشي. يصر على مبادئه ومواقفه، دون أن يناله أذى، بل يحتفى به الإعلام والصحافة والقراء، وتتهافت عليه الجوائز. أما في عالمنا العربي «السعيد»، فإن المواقف تكلف صاحبها باهظاً. قد يغادر بلده. وإذا بقي، ينشأ حوله «سور برلين». الاهتمام به منعدم. التعامل مع أعماله في الحد الأدنى. يعيش حالة كفاف وعزلة.
لكن أديبنا الراحل.. تمَّيز عن كثيرين، بأنه لم يطلب شيئاً.
منذ ظهر.. كاتباً روائياً في الستينيات – عقب خروجه من السجن.. بسبب تهم سياسية – أصر على أن يعيش على الهامش، حتى لا يدفع ثمن التواجد في قلب حركة ثقافية.. حارب أمراضها ومرضاها. تعرفتُ على أعماله نهاية الثمانينيات. بدأت برواية «بيروت بيروت»، ثم لم أترك له عملاً إبداعياً.. إلا قرأته. عُدتُ إلى عمله الأول.. «تلك الرائحة»، الذي قدمه إلى مجموعة من كبار الكتاب؛ بينهم الرائد يحيى حقي.. الذي قال له: أرجو أن تكون رائحة ذكية. لكنه عندما قرأ العمل، فوجئ بالجرأة غير المسبوقة للشاب، فكتب كلمات غاضبة للغاية.
ومع ذلك، كانت «تلك الرائحة».. بحسب العظيم يوسف إدريس: «من أجمل ما قرأت باللغة العربية.. خلال السنوات القليلة الماضية. إنها ليست مجرد قصة، ولكنها ثورة». ثم تتالت الأعمال: «اللجنة» و«نجمة أغسطس» و«ذات» و«شرف».. وغيرها، التي يقول النقاد عنها.. إنها مثلت بصمة خاصة ومتميزة في الرواية العربية الحديثة، ولا يمكن الحديث عن السرد العربي دون التوقف عند تجربة صُنع الله إبراهيم.
أحياناً تقرأ أعمالاً أدبية جيدة، لكن شكوكك حول مصداقية الكاتب، تقلل من تأثيرها عليك، أو على الأقل هذا ما يحدث لي. لكني – مع صُنع الله إبراهيم – كنت أتوحد مع النص. أشعر بأنه صادق، ويعكس مبادئ الكاتب ومواقفه. ثم جاء عام 2003، عندما صعد على مسرح دار الأوبرا.. أمام كبار رجال الدولة، معلناً رفضه جائزة ملتقى الرواية العربية.. بمكافأتها الضخمة، التي كان في أمس الحاجة إليها، ومعللاً ذلك بأن: «الحكومة غير جديرة بأن تمنح جائزة لكاتب».
أحدث الرفض ضجة – بل أزمة – لكنه مضى.. معتبراً ما حدث محطة تجاوزها. لم يتاجر بها، ولم يعلقها على «عروة الجاكتة»، كما يفعل البعض في مواقف أقل بكثير. لم يظهر في الإعلام، إلا حين كان يجب أن يظهر. اعتكف في شقته المتواضعة.. عند جسر السويس، التي لا تزيد مساحتها على 80 متراً؛ كما ذكر أحد من زواره. لم تتغير حياته. عاش في صمت، إلا من قراءاته وترجماته، وما يحب أن يسمع ويشاهد.
عظمة صُنع الله إبراهيم.. ليست في رواياته ولا مواقفه فقط، بل في أنه كان نسيجاً وحده. مواقفه لا تختلف عن إبداعاته، وهذه لا تتناقض مع حياته. إنه كما وصفه كُتابٌ عرب.. عاش ثابتاً في زمن التقلب. نبش الواقع وفتت لغته ونظامه، وواجهه.. متلبساً بأقل أدوات الزينة. ظل وفياً لمبادئه وإنسانيته.
نقلاً عن «المصري اليوم»