نيفين مسعد
هذا هو المقال العشرون.. في سلسلة مقالات «الشخصية القبطية في الأدب المصري». والرواية التي يتناولها مقال اليوم.. بعنوان «صياد الملائكة» للأديب هدرا جرجس، وقد صدرت في عام 2014 عن دار الربيع العربي.
ليست هذه هي الرواية الأولى التي أقرأها لهدرا جرجس، خاصة أن أدبه – وإن لم يكن حبيس المجتمع القبطي، كما هو الحال مثلاً مع أدب إدوار الخراط – إلا أن رواياته عادة ما توجد بها شخصية قبطية محورية.. في انعكاس طبيعي وتلقائي للواقع المصري. وهذه الشخصية قد تكون لبخيت.. الذي أصرّ على الرهبنة، رغم المعارضة الشديدة من والده، وتحول بالتالي إلى الراهب إستفانوس – وذلك في رواية «بالضبط كان يشبه الصورة» – وقد تكون هذه الشخصية للمعلم مسيحة.. المرتل الكنسي العجوز- في رواية «خطيّة رابضة عند الباب» – كما قد تخص هذه الشخصية حنا.. في رواية «صياد الملائكة».
أما سبب اختياري لشخصية حنا بالذات – للكتابة عنها – فذلك يرجع لأنها شخصية.. كاشفة لحجم النفاق الاجتماعي، والتناقضات السلوكية لدى شريحة واسعة من المصريين؛ كما سوف يظهر في العرض. وعلى الرغم من القطع الصغير لصفحات الرواية، وقلة عدد صفحاتها – كما هو دأب هدرا جرجس في كافة أعماله – إلا أن رسالة الكاتب وصلتني كقارئة.. بالوضوح الممكن، فهذا الـ«حنا» – الذي يعيش حياة بائسة على الأرض – يحلم بالوصول يوماً ما إلى الجنة.. محمولاً على أجنحة الملائكة، ومع علمه بأن الطريق إلى الجنة يحتاج شيئاً ما – أو بمعنى أصح يحتاج إلى عمل ما – إلا أنه لا يفعل شيئاً.. مما هو مطلوب منه، بل يمضي في طريقه لا يلوي على شيء، مفعولاً به من كل مَن حوله، ولا يؤثر في أحد.
***
حنا.. هو شاب في الخامسة والثلاثين من عمره، تخرَّج من كلية الآداب قسم الفلسفة، لكنه ركن شهادته على الرف، وعمل «بارمان» في باخرة سياحية. لا يأخذ إجازة إلا لمدة أسبوع واحد.. بعد كل شهرين من العمل. ويرسم لنا الكاتب معالم شخصية حنا.. بأكبر عدد ممكن من أدوات النفي؛ فهو انطوائي لا يحب الكلام، ولا الضحك ولا الحلوى ولا الخمر، ولا يجوع ولا ينفعل، وليست له علاقات نسائية، ولا يفكر حتى في الزواج.. لأنه إذا كان هو أصلاً لا يطيق نفسه – كما يقول – فكيف له أن يطيق امرأة تقاسمه حياته؟ له صديقان لا أكثر، منصور.. الذي يمتلك دكاناً، يزوره فيه أثناء أسبوع الإجازة. وحسين.. جاره الذي يقيم في الطابق الأسفل من عمارة الخبراء، المطلة على النيل في إحدى مدن الصعيد.
منصور وحسين.. شقيّان متعددا المغامرات والعلاقات النسائية، أما هو – حنا – فإنه يحلم ويكتب أحلامه، ومع أن ما يكتبه كان «يِيجي منه» – كما يقال – إلا أنه لم ينشره، بل تعمّد أن ينام لفترات أطول، حتى يحلم أكثر ويكتب أكثر فأكثر. ليس له موقف من النقاب، لكنه لا يرتاح للجلوس إلى جانب منقبة في المواصلات، لأنه يشعر بأنه موجود في دائرة الاتهام. باختصار، حنا.. هو نموذج لشخصية منغلقة على نفسها، خجولة، مملة إلى حد انشغالها بعدّ خطوات مشاويرها اليومية.. وهي بالآلاف، تعيش على الهامش، وطموحها في الحياة الدنيا.. عبارة عن صفر كبير.
***
لم يكن حنا يشبه والده دميان – الطبيب البيطري – ذلك القديس شديد الورع، الذي كان يحتفظ في جيبه بنوتة صفراء صغيرة، يدون عليها أخطاءه التافهة.. أولاً بأول، ليكون جاهزاً للاعتراف أمام الكاهن، والذي لم يتزوج بعد رحيل زوجته.. لأن امرأته كانت قدره، وهو لا يجرؤ على تحدي الأقدار، إلى أن مات في أثناء رحلة كنسية لأحد الأديرة. هذا عن دميان، أما حنا نفسه.. فإنه لم يكن قبطياً متديناً؛ فلا صلاة له ولا تناول ولا اعتراف، فقط هو يؤمن بأن «أبانا الذي في السماوات» ينفذ مشيئته، وبأن علينا واجب شكره في كل الأحوال.
لكن كون حنا لم يتخذ من الدين مشروع حياة، فإن ذلك لم يضمن له حياة آمنة في مدينة صعيدية، لا يجد أهلها ما يفعلونه في المساء.. إلا مطاردة المتمردين و…المختلفين في أي شيء وكل شيء. في طفولته اكتشف أنه «خواجة»، عندما تربّص به زملاؤه التلامذة وأشبعوه ضرباً، وطالبوه – كخواجة – بأن ينطق بالشهادتين. وفي شبابه عرف أنه يختلف عن الأغلبية، عندما تقربت منه زميلته في الجامعة وردة – وهي فتاة محجبة – وتحرشت به دينياً.. إذا جاز التعبير؛ كأنما أرادت أن تهديه إلى سواء السبيل. وبينما هي تحاول أداء رسالتها المقدسة، لم تكن تتورع عن اعتباره جزءاً من جماعة.. تطلق عليها «أنتم»، في مقابل جماعتها.. التي كانت تصفها بأنها «نحن»؛ ففهم حنا أنهما.. مختلفان.
لكن كله كوم، وما حدث لبطل الرواية حنا.. مع صفية العاهرة – التي تتخفى وراء نقابها – كوم آخر تماماً؛ فعندما عرض عليها منصور.. أن يتقاسم معاشرتها مع صديقه حنا، وعرفت أنه قبطي، استنكرت بشدة.. لأن «مالهاش في النصارى».
وهنا أتوقف بالتحديد.. عند هذا الموقف من جانب صفية، لأنه يكشف لنا عن نفاق مركب؛ فصفية تتخفى وراء النقاب.. ليس فقط لستر خطيئتها، لكن لأنها تعتبر أنه ليس ضرورياً.. أن يقود ارتكاب خطأ واحد، إلى ارتكاب كل الأخطاء. ثم إنها – في سيرها البطال – لا تقبل الانحراف سوى مع أبناء ملتها؛ وكأن الاشتراك في نفس الدين يخفف من وقع الوزر. وسوف يمتد خط هذا النفاق الاجتماعي.. على استقامته، فعندما توافق صفية – بعد تردد – على مضاجعة حنا، تأخذ سعاد ابنة البواب علماً بالخبر، وتقرر فضحهما على الملأ، رغم أنها كانت على علاقة قديمة مع منصور.
ومع يقين سكان الحي.. من أن صفية امرأة لعوب، تمتهن الدعارة، إلا أن حشودهم الغاضبة تدفقت على شقة حنا، تريد الفتك به.. كي لا يدنس شرف «أختهم»، شخص «خمورجي كافر، ونصراني منتهك الأعراض».
وتكتمل الكوميديا السوداء.. حين يساق حنا إلى قسم الشرطة – بعد تخليصه بأعجوبة من أيدي مهاجميه – فينهره المحقق بشدة، لأنه انتهك «نظام البلد».. لا بمعنى تهديد الفضيلة والقيم الاجتماعية، لكن بمعنى أنه قرر أن «يبص لغير نوعه”، وفي الأثناء يرمي لنا المؤلف فقرة عن الخدمات المتبادلة.. بين القسم وأقباط المدينة؛ كمثل ترميم سقف الكنيسة، في مقابل تصويتهم لصالح مرشحي الحكومة في الانتخابات، وتلك قضية أخرى.
***
النفاق الاجتماعي والمعايير المزدوجة.. ظواهر ليست غريبة؛ لا على المجتمع المصري، ولا على أي مجتمع آخر، ومن الواضح أنها تحظى باهتمام هدرا جرجس، لأنه عرض لبعض تجلياتها في أعمال أخرى له؛ كما في محاولة أيوب استدراج ابنه بخيت.. لإقامة علاقة آثمة مع الخادمة، كي يضطر للزواج منها مجبراً، ويصرف النظر نهائياً عن الرهبنة.. في رواية «كان يشبهه بالضبط».
لكن جرعة هذه الازدواجية، تظهر مكثفة في رواية «صياد الملائكة». وربما يعود ذلك إلى عاملين اثنين؛ الأول: هو زيادة التعلق الاجتماعي الشديد بالشكل والمظهر.. على حساب الجوهر، والثاني: هو تآكل الحيز الخاص للفرد، ومعه تضاؤل الاستعداد لقبول الاختلاف، والإقرار بالنسبية.
فكل التحية لهدرا جرجس.. على تناوله الأدبي الجريء، الذي أعتبره تناولاً في الصميم.
نقلاً عن «الشروق»