Times of Egypt

صلاح عيسى مصري عظيم لم ينل حقه من التقدير 

M.Adam
محمد أبو الغار 

محمد أبو الغار 

صلاح عيسى شخصية متعددة المواهب. وُلد عام 1939 ورحل عام 1017. ما فعله صلاح عيسى للوطن وللثقافة وللتاريخ وللصحافة وللمصريين عموماً البسطاء والمثقفين أكبر بكثير مما فعله عدد من كبار رجال الدولة، أو رؤساء المؤسسات الصحفية. الموهبة جزء أساسي في تفوق الإنسان، ولكن الموهبة بدون تعليم وثقافة وتجربة.. سوف تُدفن وتختفي وأثرها سيكون محدوداً 

صلاح عيسى علَّم نفسه بنفسه بالقراءة والتجربة، وتوسيع آفاق المعرفة في كل المجالات. بدأ العمل في الصحافة بعد أن كان طالباً وشاباً نشيطاً في التظاهرات.. التي حدثت في مصر بعد هزيمة 1967، وقبل حرب 1973، وكان معارضاً يسارياً واضحاً، يمثل قطاعاً كبيراً من الشباب في ذلك الوقت. وعندما التحق بجريدة الجمهورية، كان صحفياً مقلقاً للقيادة الصحفية في عصر السادات، كما كان مقلقاً للجامعة أيام عبد الناصر؛ وهو ما أدى إلى اعتقاله عدة مرات؛ بتهمة اليسار فترة، وبتهمة مشاغبة النظام تارة.. والنداء بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية تارة أخرى. اهتم بالعمل النقابي فترة، واستطاع أن ينجح في عضوية مجلس نقابة الصحفيين لفترة، ودافع بقوة ضد قانون الصحافة المجحف.. في منتصف التسعينيات الذي أصر عليه مبارك، ثم اضطر للتراجع عنه تحت ضغط الصحفيين، ومساندة الشعب لهم. 

اشترك في حزب التجمع، ولكنه كان مشاركاً ليكون صحفياً في الأهالي جريدة اليسار، التي ارتفع توزيعها في فترة إلى السماء.. بسبب قيادات صحفية متميزة منها صلاح عيسى، وبسبب وجود سقف معقول من الحرية. كل هذه النشاطات الصحفية العظيمة التي قام بها والقضايا التي ناقشها كانت قضايا ملحة عند الشعب، والجماهير التي انحاز لها.., مستخدماً التاريخ والعلم الحديث، بدون ديموجاجية أو شعبوية، وهو ما جعله مؤثراً في قطاع كبير من المثقفين 

وبتقدم الزمن، وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. تحوَّل فكر كثير من الماركسيين أو القريبين من الفكر الماركسي إلى الاشتراكية الديمقراطية في شمال أوروبا، مع تعديلات تناسب ظروف الوطن، وبالتالي حدث تغير إيجابي في أفكار صلاح عيسى، ولكنه لم يتخلّ أبداً عن أفكاره الأساسية، ولا عن إعطاء الجميع الحق في التعليم والصحة، وظل طوال عمره يدافع عن الحق في الحرية. 

انخرط القارئ الدؤوب على البحث في التاريخ.. اعتباراً من المماليك والعصر العثماني، ثم أسرة محمد علي، وما بعد 1952.. بدراسات عميقة، استطاع أن يحصل فيها على المصادر الأولية لأحداث مهمة عن المصريين العاديين. هو لم يهتم بأخبار الملوك والرؤساء وكبار شيوخ القبائل، وإنما اهتم بالناس، وهو ما يصطلح باسم التاريخ الاجتماعي الذي تحول من علم الاجتماع إلى علم التاريخ في العقود الأخيرة وأظهر حوادث تاريخية مهمة.. تاهت عن المؤرخين الكلاسيكيين، لأنها لم تدون، وكانت على الهامش ولم يهتم بها المؤرخون، وكان ظهور التاريخ الشفهيالذي بدأ بتدوين الكلام مع الأميين والبسطاء والشخصيات غير المعروفة، ثم التسجيل بأجهزة بسيطة منذ سبعين عاماً ثم بالصوت والصورة وبعدها احتل التاريخ الاجتماعي مكانة كبيرة. 

استطاع أن يصل إلى المخازن التي تحوي ملف قضية ريا وسكينة الواقع في 2220 صفحة وتناول القضية الشهيرة، التي حدثت منذ مائة عام.. من منظور اجتماعي واقتصادي وعرقي، وكيف أن هجرة ريا وسكينة من قرية في أسوان إلى كفر الزيات.. ثم الإسكندرية، هي ليست من طباع الفلاحين، وإنما البدو الذين يعيشون على أطراف هذه القرى. وكذلك وصف الملابس والتصرفات مختلفة. رجال ريا وسكينة جميعاً.. التحقوا بالفيلق المصري، وسافروا لخدمة الجيش الإنجليزي، ووصل بعضهم إلى العراق 

الظروف الاقتصادية التي حدثت زادت من حدة الفقر. الحارة الفقيرة التي سكنوا فيها في الإسكندرية.. كان بها خمارتان، يملكهما خواجات. اسم سكينة كان منتشراً جداً في القرن الـ19، لأنه اسم ابنة الحسين وحفيدة علي بن أبي طالب ابن عم النبي. وتوقف الشعب عن تسمية سكينة في القرن العشرين.. بعد قضية ريا وسكينة. بيت الدعارة في الحارة غير المرخص دفع أحد الجيران للشكوى لشيخ الحارة، الذي قال له «أنا مش موافق لكن مش عايز دوشة». 

صلاح عيسى في كتابه «حكايات من دفتر الوطن»، دقق وبحث في حادث مقتل الجنرال الشهير ابن الأرستقراطية الفرنسية كليبر، الذي خلف نابليون في مصر. كُتِبت المقالات والمراجع والشهادات، وأقيمت التماثيل وسُميت الشوارع والميادين في فرنسا باسمه، وكذلك شارع في مصر باسمه. وكل ما يعرفه التاريخ الرسمي عن سليمان الحلبي.. الذي قتله بالإعدام على الخازوق 

رصد صلاح عيسى تاريخ سليمان، وسبب غضبه على الاستعمار العثماني.. ثم الفرنسيالذي ضغط على أبيه التاجر بالضرائب والغرامات وأنه طاف بمكة والمدينة وزار القدس ونابلس والخليل، وعاش سنوات.. وأفضى برغبته إلى حاكم القدس أحمد أغا، الذي قال له قابل ياسين أغا في غزة.. وسوف يساعدك، وذهب إلى غزة وقابله واشترى الخنجر. وتحدث مع أهل غزة الغاضبين، ووصل مصر.. ليعيش مع أربعة من أهل غزة. وبعد أن مكث شهراً مع مصطفى أفندي، اغتال كليبر بالخنجر، واشتبك معه مرافق كليبر، وقبض عليه، وحُكم عليه بالإعدام بالخازوق.. بعد حرق يده. وأعدم الأربعة الغزاوية بالمشنقة، وحُكم على مصطفى أفندي بخمس سنوات سجن. وقد وصف الجبرتي المؤرخ التقليدي في هذه الفترة سليمان الحلبي، بأنه رجل أفاق وأهوج. 

كتب صلاح عيسى هوامش المقريزي، ومزج فيها بين التاريخ القديم والتحليل المعاصر، وأهم الحكايات القديمة، وتأثيرها في فهم تاريخ مصر. والبرجوازية المصرية أثناء الاحتلال البريطانيوتأثيرها في ثورة 1919. 

ولم ينسَ دور المرأة في المقاومة.. في غزوة نابليون وفي ثورة 1919. وكتب كتاب «تباريح جريح».. عن شر البلية ما يضحك في تاريخ مصر. وكتاب «رجال مرج دابق».. عن الفتح العثماني لمصر والشام، وكان كتابه الأول عن الثورة العرابية. ثم كتاب «أفيون وبنادق».. عن السيرة السياسية والاجتماعية لخط الصعيد الذي دوخ ثلاث حكومات. 

صلاح عيسى.. لم يكن المقريزي ولا الجبرتي ولا الرافعي، الذين دونوا تاريخ فترة عاشوها. صلاح عيسى.. كان كل هؤلاء دون أن يكون قريباً من السلطة، بل كان دائماً مع الناس طوال الوقت، وفي السنوات الأخيرة، اتُّهم بأنه باع القضية، وهذا كلام لا يصح أن يقال؛ فلم يكتب كلمة واحدة في حياته.. إلا وكان مقتنعاً بها. وعندما تولى رئاسة تحرير القاهرة، أصدر جريدة ثقافية محترمة ليس فيها تزلف للسلطة 

هناك مقولة بأن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهي حقيقة ولكنها ليست كاملة.. لأن ذلك يحدث إلى حين، ويظهر بعد ذلك من ينقب في التاريخ، ويكشف المستور عن كل الأكاذيب المنشورة في كتب التاريخ، وتطور التاريخ الاجتماعي، وانتقاله ليصبح مكوناً هاماً للتاريخ الأكاديمي.. غيّر الصورة التاريخية لكثير من الأحداث.. التي مرت عليها عشرات بل مئات السنوات، فظهرت الحقيقة. 

صلاح عيسى.. كان مثقفاً موسوعياً؛ يفهم ويكتب في الفن والسينما والمسرح والحب والجمال والفلسفة، ولم تعطله عن الفكر والكتابة سنوات السجن وسنوات ضغط الحريات وتهميش الموهوبين. 

أقامت الجمعية التاريخية احتفالاً علمياً بصلاح عيسى.. الأسبوع الماضي، وكان ختامه كلمة رائعة من الأستاذة أمينة النقاش زوجة صلاح عيسى عن حياتهما معاً، والكثير من المعلومات العامة عنه، وأرجو أن تصدر في كتاب عنه، وعن حياتهما معاً. وقد أصدر محمد الشماع وهاجر صلاح كتاباً عنه عام 2021. 

صلاح عيسى مصري عظيم، سوف يظل دائماً في قلوب المصريين. 

قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك 

نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة