وجيه وهبة
منذ إنهاء كمال أتاتورك لآخر «خلافة إسلامية».. رسمياً وفعلياً، (عام 1924). منذ ذلك الحين وإلى يومنا هذا، لم تتوقف محاولات جماعات الإسلام السياسي – بكل مسمياتها – لم تتوقف لحظة.. عن اللعب بورقة «الدين»، بحجة السعي نحو إقامة «دولة الخلافة».. «اليوتوبيا» المزعومة، وما أسهل السيطرة على وعي الناس ومقدَّراتهم ومصائرهم باستخدام «الدين» كأداة، ممن يجيدون اللعب بها من المحترفين.
■ في عام 1982، نشر د. حسن حنفي – أستاذ الفلسفة – في صحيفة «الوطن» الكويتية، سلسلة مقالاته طويلة.. عن «الحركة الإسلامية المعاصرة»، ارتكز فيها على دراسة ما جاء في التحقيقات والمحاكمات لتنظيم «الجهاد»، الذي قام باغتيال الرئيس «السادات».
رأى د. «فؤاد زكريا» – أستاذ الفلسفة أيضاً – في مقالات حسن حنفي.. مغالطات وتناقضات وأخطاء فادحة، بالإضافة لخطورتها على الشباب، لما تتضمَّنه من مباركة لأساليب التغيير عبر العنف، وامتداح للإخوان المسلمين ولتنظيم الجهاد ولعملية اغتيال السادات. وقام «فؤاد زكريا» بالرد على مقالات «حسن حنفي» البائسة، ببحث نقدي محكم ومفحم، نشره – كفصل من كتاب شديد الأهمية – أصدره عام 1985، منذ أربعين عاماً بعنوان «الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة». نعرض لبعض مما جاء فيه. يستهل الكاتب هذا الفصل بقوله:
■ «طوال تاريخ ثورة 23 يوليو، كان المثقفون – الذين جنَّدوا أنفسهم لخدمة النظام القائم، أو الذين اعتنقوا اتجاهاته عن إيمان – يرددون مقولة ظلت تتكرر.. حتى سَرَتْ بين الناس مسرَى البديهيات، وهي أن تجربة الحياة الحزبية في مصر.. قد فشلت، واليسار لا يمثل مصر.. لأنه يتلقى أفكاره من الخارج، واليمين يريد المحافظة على استغلاله، ويقدم فكراً تخديرياً لا يخدم مصالح الجماهير؛ وإذن يبقى بعد هذا فكر الثورة (سواء اتخذ صيغة هيئة التحرير أم الاتحاد القومي أم الاتحاد الاشتراكي).. بوصفه الصيغة الوحيدة المقبولة والصالحة».
■ ويفند «فؤاد زكريا» قول «حسن حنفي»، بأن اغتيال السادات كان يعبر عن الثأر، ثأر جماعة الإخوان المسلمين، وما انبثق عنها من جماعات من ثورة يوليو 52، وما اقترفته إزاءهم، فيقول:
«.. كيف صبَّت الجماعات الإسلامية غضبها على السادات بالذات، مع أن تنكيله بهم – مهما بلغت شدته – كان أقل بكثير من تنكيل عبد الناصر؟ إن القول بوجود ثأر قديم، ينطوي على تبسيط وتسطيح للمشكلة. وحقيقة، الأمر أن السادات قُتل، لأنه كان هو الأقرب إليهم، كما توهموا.. طوال فترة المهادنة بينه وبينهم، ونظراً لاعتقادهم بأنه هو الأقرب إليهم، فقد بَنَوْا عليه آمالاً كبيرة، وشجَّعهم هو ذاته.. على الاعتقاد بأنه يقترب بهم كثيراً من أهدافهم، وأعطاهم كل فرص الانتشار، فاستجابوا له بترحيب شديد، وتصوروا أن دولتهم أوشكت على التحقق.
غير أن السادات – الذي كانت له دائماً حساباته ومشروعاته الخاصة – خيَّب ظنهم في السنتين الأخيرتين من حكمه، فقد أخذ يتباعد.. لأنه مضطر إلى عمل حساب علاقاته الخارجية بالغرب، وحماية الملايين من المواطنين المسيحيين الموجودين في أرضه.. كحقيقة واقعة، وانتقل من التباعد إلى الهجوم الفعلي؛ عندما زادت قوة هذه الجماعات.. عن الحدود التي كان يرسمها، وتجاوز نشاطها الأهداف التي كان يخططها لهم. كما أخذوا هم يتباعدون، لأنهم شعروا أن هدفهم – الذي بدا أنهم قد اقتربوا منه، وهو التطبيق الكامل للشريعة الإسلامية – أصبح بعيداً عن التحقق. وهكذا كانوا أعنف مع السادات، الذي دللهم طويلاً، منهم مع عبد الناصر، الذي عذبهم وقتلهم؛ لأن الأول اقترب بهم كثيراً من أهدافهم، ثم اتضح أنه كان يخدعهم، ولم يكن مستعداً للمُضي في الاستجابة لهم إلى النهاية».
التملق الدائم
ويواصل «فؤاد زكريا»:
«وهكذا لا يمكن القول بوجود خط متصل في العلاقة بين الإخوان والثورة، هو الثأر المتراكم عبر ثلاثين سنة من حكم الثورة، بل إن نمط هذه العلاقة.. كان أعقد بكثير، فهو نمط يبدأ بمحاولة استغلال كل طرف للآخر، وينتهي بحدوث تصادم بين الطرفين، ويتكرر هذا النمط عدة مرات.. في ظروف ومعطيات مختلفة».
ولكن الأمر الذي ينبغي أن نتنبه إليه، هو أنه لم تحدث – في أي وقت – مواجهة بين الثورة وبين «الدين».. أو «الإسلام» ذاته؛ فعلى الرغم من حدوث مواجهات عنيفة.. بينها وبين جماعات دينية – معظمها إسلامية، وإن كانت بعضها مسيحية – فقد ظلت الثورة.. منذ بدايتها حتى وقتنا الراهن، تتملق المشاعر الدينية للناس، حتى وهي تشن أقوى الحملات على الجماعات الدينية. وبلغ هذا التملق ذروته في العهد الساداتي، ولكنه كان موجوداً طوال الوقت. وهكذا لم تمر الثورة – في أي وقت – بمرحلة كانت فيها غير مكترثة بالدين، كما هي الحال في الثورة الكمالية في تركيا مثلاً، ولم تكن حتى علمانية بالمعنى الكامل، كما يحدث في الولايات المتحدة ومعظم بلاد أوروبا الغربية، بل إنها لم تتوقف عن تأكيد تمسكها بالدين وشعائره، ولم تكف عن استخدام سلاح الدين لدعم أهدافها، بحيث كان الإسلام في نظرها.. هو الذي يبرر الاشتراكية والقومية العربية في وقت ما، وهو الذي يبرر الاقتصاد الحر والصلح مع إسرائيل في وقت آخر». ا.هـ
■ كلاهما كان أستاذاً للفلسفة، ولكن «حسن حنفي» كان يُعد بالنسبه لتلاميذه – أو مريديه ودراويشه – «شيخ طريقة يسارية»، أو فقيهاً أو مرشداً لليسار الإسلامي، أو قل؛ لـ«الإخوان اليساريين». وشتان الفرق بين أفكاره وطريقته، وبين فكر ومنهج «فؤاد زكريا»، ذلك الأستاذ «التنويري»، بلا مريدين.
نقلاً عن «المصري اليوم»