وجيه وهبة
«نحو حياة أفضل»..مسرحية طريفة لتوفيق الحكيم، صدرت منذ سبعين عاماً. عنوانها يبدو دعائياً خادعاً، لا يعكس خفة ظل الحوار الساخر المعروفة عن كاتبها، وإن لم تخلُ المسرحية من نقد اجتماعي مباشر، وومضات فلسفية، كعادة مسرح «الحكيم».
■ غادر «المصلح» القاهرة مع زوجته.. لقضاء إجازة ريفية في قرية الزوجة. وكانت الزوجة قد صورت له حياة الريف.. وكأنها الجنة، وأنه سوف يمارس هوايته في القراءة في ظلال الأشجار، مستمتعاً بالمياه الجارية من حوله. اكتشف الرجل أن الشجرة الوحيدة في القرية.. كانت شجرة سنط، وقد «ربطوا في جذعها البهائم.. بعَلَفِها ورَوَثِها»، ولم تكن المياه الجارية.. سوى ترعة يطفو على سطحها جثَّة حمار مُنتفِخَةً، يعلوها الذباب والحشرات!
كانت قضية حياة الرجل، هي إصلاح أحوال الناس ـ وكما كان يقول لزوجته: «أتمنَّى لو أُغمض عيني ثم أفتحها، فأرى الفقر من حولي وقد تلاشى، وأرى الناس يعيشون حياة أفضل».
قبيل منتصف الليل، وأثناء قراءته للفصل الأخير من قصة «فاوست» الشهيرة (قصة صفقة الرجل الذي باع نفسه للشيطان.. في سبيل تحقيق رغباته). ومع خفوت نور المصباح، شعر بوجود شبح في الحجرة. لم يجزع، وسأله: من أنت؟ فأجابه الشبح: «أنا الذي تقرأ عنه الآن في كتابك!». كان الزائر هو «الشيطان» بذاته.. دار حوار طريف ساخر بين «المصلح» و«الشيطان»، شكى فيه الشيطان من «فاوست» الغشاش، هذا الذي لم يفِ بالعهد، بعد أن حقق له كل رغباته. ثم يُطمئن «المصلح»: «أنت الآن أمام شخصٍ أمينٍ في المعاملة؛ يَفِي بوعده، ويحترم توقيعه.. أنا اليوم غيري بالأمس.. كنتُ فيما مضى شاباً نزِقاً.. يُغري الناس بالإثم والشر.. أمَّا اليوم فأنا شخصٌ آخر!، كهلٌ متَّزِن.. صارت هوايتي المعاونة في الخير والإصلاح.. ودليلي هو أنِّي هرعت إليك، عندما سمعتُك تطلُب حياةً أفضل لقومك.. لا لنَفْسك».
عرض «الشيطان» على «المصلح»،أن يحقق له أمنيته في حياة كريمة أفضل لقومه.. على شرط واحد، وهو أن يكون صادقاً، ويقول للناس.. أن «الشيطان» عاونه في إصلاح أحوالهم. بعد رفض ثم تردد ونقاش، يوافق «المصلح» على شرط «الشيطان».
بعد غمضة عين، يطل «المصلح» من النافذة، ويصيح في دَهْشةً: «إلهي!…… أين القرية القذِرة؟.. أين الأكواخ الحقيرة؟!.. ما كلُّ هذه المباني الجميلة؟.. ما كل هذه البساتين العامة؟.. ما كل هذه «الفِيلَّات»..؟!.. يا لَلمعجزة!.. أقَومي يعيشون في هذه الجنة؟!.. لا شك أنهم «جميعاً سُعداء!». ولكي يؤكد «الشيطان» للمصلح التغيير الذي حدث للناس، أتى إليه بأفقرهم وأحقرهم، «محروس الجرف»..الفلاح الذي كان أجيراً، وقد رآه «المصلح» في الصباح «تحت شجرة السَّنط مع المواشي، التي يسرِّحها، وهو أقْذَر منها وأحْقَر، بثوبه الوحيد الذي لا يستُر جسمه العاري، وخلْفَه امرأته خضرة، تجمع بيدَيها الرَّوَث؛ لتعجن منه وقوداً».
دخل «محروس» في ثيابٍ عصرية، وخلْفَه «خضرة» في زيٍّ مُتحضِّر. يتعجب «المصلح»، وقبل أن يتحدث إليهما، ينبهه الشيطان: «إنهما لا يذكُران هذا الصباح إلا كما تذكُر أنت طفولتك عند ولادتك، دَعك من ماضيهما… حادثْهما في الحاضر»!
يدور حوار بين «المصلح»..و«محروس» وزوجته «خضرة»، نتبين منه أن «محروس» قد أصبح يمتلك عشرين فداناً وفيلا، ويستخدم الميكنة ومعدات الجمعية التعاونية الحديثة.. في زراعة الأرض. ويعيش حياة رغدة. وحينما يسأله عن كيف يقضي وقت فراغه، تجاوب خضرة، بأنه يقضيه مع الشاي والحشيش. وتشكتي من أنه يرغب في الزواج مرة أخرى، ويقاطعها محروس: «حالتي طيِّبة، وفلوسي في جيبي، والأشيا معدن!… لماذا أحرم نفسي؟!».
ويزجره المصلح: «ألا تعرف طُرقاً أخرى تُمتِّع نفسك غير الحشيش والنِّسوان؟!.. لماذا لا تُمتِّع نفسك بقراءة كتابٍ جيد؟.. أو بمحادثةِ زوجتك في موضوعٍ ظريف؟.. أو الإصغاء إلى إذاعةٍ لطيفة في الراديو؟». ويرد محروس: «الراديو عندنا في حُجرة الضيوف يبيض عليه الدَّجاج، وتلعب فوقه الكتاكيت!». وتصيح خضرة: «كذاب». تعلو أصواتهما، ويتشاجران وهما يخرجان.
يقول المصلح للشيطان: «إنَّك لم تصنع شيئاً جديداً.. إنك جعلتَهم على غِرار الطراز المعروف لأولئك الأثرياء من مُلَّاك الريف!.. لقد دخلتُ فيما مضى قصراً لثريٍّ ريفي.. يملك أكثر من عشرين ألف فدَّان، ورأيتُ بعينَي رأسي الماعزَ يمشي على السجاجيد الثمينة في الصالون الذهبي الفاخر!.. كما رأيتُ أقطاب هذا البيت.. لا يفقهون من معنى الحياة، أكثرَ ممَّا يفهم صاحبُك محروس!.. يرتدون أفخر الثِّياب، ويذهبون إلى أوروبا بالباخرة والطائرة والكاديلاك، ويعودون وما فهموا من مُتع النفس.. أكثرَ ممَّا يفهم محروس»!.
ويحتج «الشيطان»،بأن حياة «الفلاح» قد أصبحت أفضل.. مما كانت عليه في الصباح تحت الشجرة. ويجيب «المصلح»، بأنها «أفضل من جهة المَلبَس، والمَأكَل، والمَسكَن!»، ولكن ليس من حيث رقي الإنسان، وإدراكه لمعنى أفضل لحياته، فمعنى الحياة عند الأجير الفقير والمالك الثريِّ شيءٌ واحد: «حشيشٌ ونساء.. أنت لم تُعطِ قومي إذن الحياة الأفضل.. الحياة الأفضل هي المعنى الأفضل للحياة!». ويرد «الشيطان»: «هذا ليس في شرطنا». ويجيب «المصلح»: «شرطنا هو أن تُصلح الناس.. وإصلاح الناس يشمل إصلاح النفس قبل كل شيء!». فيقول «الشيطان»: «النفس!… النفس! ألَمْ أقُلْ لك إنَّك ستُخادعني، كما خادَعَني فاوست من قبلك؟!… إنَّكم دائماً تخدعونني من هذه الناحية.. النفس.. لعنة الله على النفس.. كلُّ المتاعب لا تأتيني إلَّا من هذه الكلمة.. وداعاً!».
بعد انصراف «الشيطان»، تدخل زوجة «المصلح» الحجرة، تجده قد نام فوق كتابه، توقظه.. يستيقظ ويسألها: «هل انصرف؟» وتجيب الزوجة في دهشة: «من؟ ماذا بك؟!». فيواصل: «تصوَّري أنَّ إصلاح الناس يعجز عنه.. مَن يملك أخطرَ قوةٍ على الأرض،لأنه قد أُعطي القدرة على كل شيء، وكُتب عليه العجز عن شيءٍ واحد؛ صُنع نفسٍ أفضل.. وهنا عملي!».
■ نموذج «محروس» يعني أن الفلوس لا تصلح النفوس. بالطبع لم يكن «الحكيم» ضد الجانب المادي من عملية التحضر، ولكنه ربما أراد أن ينبه إلى أهمية الجانب غير المادي.. الثقافة ودورها في صُنع حياة أفضل، وهو الدور الذي يستعصي على «الشيطان».
نقلاً عن «المصري اليوم»