(1-2)
سمير مرقص
(1)
«العاشق دوماً«
مطلع هذا العام، صدر كتاب جديد لصديق العمر الكاتب والصحفي والصيدلي والسينمائي «توماس جورجيسيان» عنوانه: «إنها مشربية حياته.. وأنا العاشق والمعشوق». الذي أعتبره حلقة جديدة من سلسلة الكتابة الإنسانية المعجونة بالعشق للناس والأمكنة. تلك الكتابة التي دأب عليها، بل وتخصَّص فيها، ومن ثم أبدع من قبل كتابيه: «الطيور على أشكالها تطير» – 2016 عن دار العين، و«في قلوبنا عشق» ــ دار دلتا 2018. ما جعله، يقيناً، وحسبما كتبتُ مرةً، أن يكون عن استحقاق، وريثاً لمدرسة في الكتابة يمكن أن نطلق عليها «مدرسة الكتابة الإنسانية»، والتي كان من ضمن بعض أعلامها: إبراهيم المصري، ومحمد زكي عبد القادر، ويحيى حقي، ومحمد عفيفي… إلخ، التي يجمع رموزها العشق: عشق الحياة والبشر. تلك المدرسة التي تعمل على اكتشاف الجمال والنبل والمعنى والحقيقة – قدر الإمكان – لكل من الناس والوقائع، والأزمنة والأمكنة، والأفكار والإبداعات، والمشاعر والمواقف، والأقوال والأفعال.
في هذا السياق تأتي «مشربية توماس» – أو نافذة توماس – التي يطلُّ من خلالها على كثير من «المشاوير» التي قام بها: «طفلاً وشاباً – وما بعد ذلك – حالماً ومتخيلاً ومتألماً». وذلك «حاكياً وسارداً وواصفاً.. ومتذكراً ومُذكِّراً لمن حوله بصدق ما حلم به وما تخيَّله وما تألم منه وما تأمله». المشربية، إذن، عند توماس، هي «منصة الحكي» التي يقوم من خلالها بحكيه. لذا كان حريصاً أن تكون دائماً مفتوحة لأقصى درجة، كي تمتد «طلته» لأوسع مدى من تفاصيل المشاوير. بالرغم من أن المشربية – كتكوين هندسي معماري – قد صُممت لضبط انسياب الضوء وسريان الهواء ومن ثم الحرارة أي للحماية. إلا أن «توماس» لا يرضى أن يتحصن بالمشربية.. لكي يتأمل مشاويره من علٍ. وإنما لتكون «مشربيةَ حياة يتعانق فيها، ويتعانق بها.. العاشق والمعشوق».. عبر المشاوير التي حرص «توماس» ألا ينظر فيها «وراءه بغضب، أو حوله في قلق، بل ينظر دائماً وراءه وأيضاً حوله بشغف ودهشة وحب وعشق وود وألفة«.
(2)
«مشاوير توماس«
خاض «توماس» الكثيرَ من المشاوير عبر: أولاً: الأمكنة في القاهرة التي وُلد فيها ونشأ وتعلم وجُنِّد وعمل بها، وواشنطن التي كوَّن فيها أسرته وعمل بها إعلامياً وصحفياً ومراسلاً ومعلقاً على الأحداث السياسية، ومتابعاً لجديد الأدب والفن والثقافة. وثانياً: في حيوات وأفكار وإبداعات العديد الذين عايشهم والتقاهم. وبوعي أو بغير وعي.
كان «توماس» حريصاً – أثناء مشاوير حياته المتنوعة – أن يكتشف الجميل والجيد، ويخزنه في الذاكرة.. من أجل مشاركة الآخرين، من خلال الحكي والسرد، أجملَ وأعمقَ ما اكتشف في تلك المشاوير المكانية والإنسانية الحية. إذ يُعد هذا الاكتشاف عظيماً/هذه الاكتشافات عظيمة «يجب الاحتفاءُ به/ بها ويجب الحكي عنه/ عنها». لذا عندما يتصدر «توماس» «منصةَ الحكي» فإن القاريء – وحسب ما يلفت نظرنا حول منهجه في الحكي – سوف يلاحظ في «سطور حياته وحكاياته، أنه يلجأ كثيراً إلى المضارع»، ولا يتردد في «استخدام صيغة الحاضر» دائماً.
ويفسر «توماس» ذلك بقوله: «فعلُ المضارع في سردي – مثلما اعتدتُ أن أفعله في حياتي.. في حواراتي مع الآخرين وعما أتذكره. وأفعله أيضاً في كتابتي عن المبدعين والكُتاب – المضارع الحاضر هو الحالة النفسية التي أعيشها من جديد، وأنا أتحدث عن ذاكرتي. فما دمتُ وصلتُ إلى هناك فأنا هناك وهنا، ومن ثم يبدأ الحكي. فلا يوجد شيءٌ ماضٍ بالنسبة إليَّ ما دام حاضراً في ذاكرتي.. فمثلاً عندما أشاهد فيلماً تسجيلياً.. عن الأطفال المشرَّدين من غزة، أبحث تلقائياً عن وجه أبي، أو وجه يشبهه.. وسط مئات الوجوه التي أراها أمامي. وأنا أكتب هذه الكلمات تأتي في بالي قاعة الموجز الصحفي اليومي بوزارة الخارجية الأمريكية، وأنا جالس في مكاني المعتاد.. وكان عام 2015، وأرفع يدي لأسأل عن مصير المساعدات الإنسانية التي كانت تُرسَل إلى سوريا حينذاك. وكانت المتحدثة باسم الخارجية وقتها جين ساكي. وتتوالى الأسئلة وتتكرر الإجابات النموذجيةُ التي عادةً لا تكون رداً على الأسئلة المطروحة بقدر ما تكون محاولات لعدم الرد أو التنويه.
وفي لحظة ما أنظر بجانبي وأجد والدي؛ من عاش تجربةَ المذبحة الأرمينية بتداعياتها.. جالساً بجواري وينظر إليَّ برضا (أو هكذا شعرتُ)، لأني أسأل عن مأساة من يعيشون ظروفاً مماثلة.. لما عاشه هو منذ مائة عام. وصوتي يتحشرج. إلا أنني أتمالك نفسي، وأواصل توجيهَ الأسئلة.. ما دمتُ لم أجد الإجابةَ الشافيةَ للوضع الإنساني المتدهور».
(3)
«توماس وحالات عشقه«
وبعدُ، هكذا «يطلُّ» علينا توماس من مشربية العشق على مشاوير الحياة.. التي هي في حقيقتها حالات عشق، اختبرها وعاشها.. ولم تزل حية في ذاكرته يجدد اللقاء بها بتجسيدها حكياً. يسرد توماس حكايات «معشوقاته» كما يلي: قاهرتي التي تعيش معي، وصورة عائلية وأكثر من حكاية، وعن أمي أتحدث وعن أبي أتذكَّر، يا روحي: مارجريت، حواديتي مع القلم والورقة، أجزاخانة مترو وشارع عماد الدين، التدوير على الأحباب، واشنطن التي أعيش فيها، هؤلاء تعلمتُ منهم، لا أريد لهذا الحكي أن ينتهي.. ونحن أيضاً.. نواصل…
نقلاً عن «المصري اليوم»