مصطفى الفقي
سوف تظل سوريا طرفاً في معادلة الاشتباك بين دول الشام الكبير، ومركز ثقل في صراعات ما نطلق عليه «سوريا الكبرى»، ذلك أنها دولة عربية محورية.. في غرب آسيا، كما أنها مؤثرة في القضايا العربية بشكل عام، والآسيوية بل والعالمية أيضاً، وما أكثر الكتب والدراسات التي صدرت تحت عنوان «الصراع في سوريا» في السنوات الأخيرة.
وصدق خبراء الصراع العربي-الإسرائيلي.. عندما قالوا إنه «لا حرب دون مصر ولا سلام دون سوريا»، فضلاً عن أن تاريخ الدولة السورية.. هو تاريخ الدولة الإسلامية منذ بدايتها، وهو التتويج الحقيقي لميلاد الخلافة – التي بدأت في دمشق، و«عز الشرق أوله دمشق»، كما قالها أمير الشعراء أحمد شوقي، ولقد عانت سوريا كثيراً.. بسبب موقعها الجغرافي، وحدودها مع إسرائيل وتركيا وقربها من إيران، فضلاً عن الجوار مع العراق والتداخل مع لبنان واحتوائها لموزاييك من الأقليات العرقية، والقوميات المتعددة من ترك وأكراد وفرس وشركس وعرب، لذلك بقيت سوريا رقماً صعباً في التركيبة الجيوسياسية للمشرق العربي، وتوالى على حكمها العرب والعجم.
وقد بدأ الأمر من الدولة الأموية، ثم مضى إلى سطوة العباسيين على دمشق أيضاً، وتوالي الدويلات الإسلامية بعد ذلك على عاصمة الأمويين، إلى أن جاء الأتراك العثمانيون، واستقر حكمهم في الشام، ولعب التماس الجغرافي بين سوريا وتركيا دوره المؤثر.. في تشكيل الهوية التي استقرت في ذلك الجزء المهم من المشرق العربي.
وظلت سوريا مطمعاً للغزاة، وهدفاً لكل المحاولات التي سعت إلى السيطرة على قلب الوطن العربي، وجوهرة العالم الإسلامي على السواء، وحائط الصد أمام القوميات المجاورة، والأقليات المستعربة، فضلاً عن كونها خط الدفاع الأول عن المنطقة.. في مواجهة الجوار تارة، والدخلاء تارة أخرى.. من المشرق والمغرب، من الدول الإسلامية ومن أرض الفرنجة.
هل غاب عن وعينا وذاكرتنا أن عين جالوت وحطين ومرج دابق؟ كلها معارك حاسمة، ومراكز مواجهة.. كانت الشام طرفاً أصيلاً فيها، ثم جاء على الدولة السورية حين من الدهر.. خضعت فيه للانتداب الفرنسي، وأبلى أبناؤها بلاءً شجاعاً.. يتقدمهم القائد السوري الدرزي سلطان باشا الأطرش، وغيره من أحرار الشام وأشاوس سوريا، وانفتح الستار – في النهاية – على الدولة السورية الحالية وعاصمتها دمشق، والدولة اللبنانية وعاصمتها بيروت، وزحف العقل الشامي إلى مصر أيضاً.. لينشر الضياء في مجالات الأدب والفكر والصحافة والنشر والمسرح والسينما. وحين رحل الوجود التركي عن أرض الشام، تفتحت شهية القوى المختلفة؛ طمعاً في مكانة سوريا، ودورها المركزي في إدارة الصراع.. الذي اتضحت معالمه بالوجود الصهيوني واستقرار الكيان الأجنبي في فلسطين.
ولقد مرت الدولة السورية بمراحل مختلفة؛ كانت فيها طرفاً مع خصم أجنبي.. مثل إسرائيل، أو حليفا قوميا مثلما مع مصر عبدالناصر، وما زالت الذاكرة السورية تحتفظ جيداً.. بذلك الحماس الوافر لفترة حكم الرئيس المصري الراحل.. الذي ارتبط ارتباطاً شديداً بالدولة السورية، ومزاجها القومي.. حتى حظي بشعبية غير مسبوقة هناك، كادت تؤدي إلى أن حمل السوريون سيارته عام 1958 مع ميلاد الوحدة، وانطلاق المنطقة في اتجاه يزعج الغرب، ويؤرق الولايات المتحدة الأمريكية.. على نحو خاص، ويمكن أن نلخص ما جرى في سوريا في نقطتين متلازمتين، هما:
أولاً: عرفت سوريا دورة مغلقة من الانقلابات العسكرية – قادها ضباط مغامرون من الجيش السوري – فتوافد عليها حكم حسني الزعيم، وسامي الحناوي، وأديب الشيشكلي، كما عرفت الحكم المدني لفترات قصيرة.. تولى الرئاسة فيها شخصيات مدنية مثل شكري القوتلي وهاشم الأتاسي، فضلاً عن شخصيات مرموقة على امتداد ساحة العمل الوطني في الفضاء السوري.
وظلت سوريا دائماً صامدة.. لا تفرط في هويتها، ولا تتنازل عن مكانتها.. إلى أن برزت شخصيات ذات أجندات خاصة؛ نتذكر منها الحزب القومي السوري بقيادة أنطون سعادة، الذي كان يبشر بسوريا الكبرى وما يسمى بدول الهلال الخصيب ونجمته في قبرص، وجرى إعدامه على شاطئ البحر في لبنان. كما ظهر على الساحة حزب البعث العربي الاشتراكي – بتأسيس من زكي الأرسوزي وميشيل عفلق وصلاح الدين بيطار – إلى أن قامت ثورة يوليو المصرية 1952، وتجسدت الحركة القومية في زعامة الرئيس جمال عبدالناصر.. الذي كان هواه سورياً، لأنه رأى من ذلك الشعب، ما لم يرَ حاكم آخر في عصره.. تأييداً وحماساً واندفاعاً، ووصل القاهرة – في ذلك الوقت – وفد عسكري من شباب ضباط الجيش السوري، يطالب بالوحدة القومية بين مصر وسوريا؛ على اعتبار أن ذلك هو المخرج القوي – بل والوحيد – من المأزق.. الذي صنعته السياسات المعارضة لما هو قائم في دمشق، وما هو وافد من القاهرة.
ولم تعمر الوحدة – كما نعرف – طويلاً، بل سرعان ما وقع الانفصال في سبتمبر 1961، وتمكن حزب البعث العربي الاشتراكي من السيطرة على الأمور.
وتتابعت مشروعات الوحدة الثنائية بين مصر وسوريا، والثلاثية بين مصر وسوريا والعراق، وظل حلم عبدالناصر – حتى يوم رحيله – هو أن يعود إلى دمشق ظافراً، ليعلن عودة دولة الوحدة بين الإقليمين الشمالي والجنوبي.. الذي جعل الدولتين في كيان واحد، وهو الأمر الذي لم يحدث من قبل.. إلا في عهد إبراهيم باشا (ابن محمد علي)، عندما قاد جيشاً عربياً لتوحيد المنطقة، فكانت سوريا ومصر كياناً واحداً من 1831 إلى عام 1840، حين جرى توقيع معاهدة لندن، التي قصرت حكم أسرة محمد علي الوراثة في أبنائه وأحفاده على أن يبقى داخل حدوده فيمصر، لا ينطلق منها للتدخل في شؤون غيره.
وظهرت على المسرح السياسي في سوريا عناصر من الأحزاب السابقة؛ يتقدمهم حزب البعث العربي الاشتراكي، حتى أطاح حافظ الأسد بغريمه صلاح جديد، ووثب الأسد على السلطة، وأمسك بسوريا بقبضة من حديد. وكان من أبرز الأحداث الدامية في عهده.. مذبحة «حماة»، حينما قضت سرايا الدفاع على آلاف المدنيين في تلك المدينة التاريخية، وتوقف التاريخ طويلاً أمام فترة حكم الأسد – الأب والابن – اللذين كانا يرتبطان بموسكو وطهران.. في علاقات جعلت لهما وضعاً خاصاً في المنطقة العربية.
ثانياً: عرفت المنطقة بعد ذلك تجمعات مشبوهة.. لتنظيمات إرهابية فرعية، يتقدمها ما سمى نفسه تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق (داعش)، إلى جانب مسميات أخرى لتنظيمات على نفس النمط.. تحاول أن تجد لنفسها مكاناً على الساحة السورية، بحيث تحقق في تلك الظروف غير الطبيعية، ما لم تستطع تحقيقه في الظروف الطبيعية من قبل. وفي غضون أحداث الربيع العربي، انطلقت الشرارة من محافظة درعا.. حتى أصبح الأمر قابلاً للعدوى والاشتعال، وخرجت سوريا بالتالي من المعادلة العربية تقريباً، إلى أن استعاد بعض أبنائها مراكز الحكم ومواقع السلطة، وتولى الرئيس الانتقالي أحمد الشرع مقاليد الأمور.. ومعه نفر من الشعب السوري. وها هي سوريا اليوم تحاول أن تتعافى.. في ظل ظروف شديدة الحساسية بالغة التعقيد، حتى إننا لا يمكن أن ندرك جيداً.. توقعات سليمة وكاملة للمستقبل، فهناك من يحاولون أن يضعوا سوريا في مهب الريح، وإسرائيل تطل بأطماعها التاريخية، وإيران بأوجاعها المحلية، ولا شك أن تركيا أيضاً حاضرة بتطلعاتها المستقبلية.
لكن يظل اسم سوريا مرفوعاً وعلمها خفاقاً؛ لأنها حضارة ملتقى، وبلد يعرف التعددية الإيجابية.. التي أدت إلى قدر كبير من التعايش المشترك، والعلاقة الوثيقة بين الديانات والقوميات، ولقد كانت سوريا – وسوف تبقى – رقماً صعباً في كل معادلة قومية أو إقليمية، لأنها تضم تجمعات بشرية ذات ثقل كبير، وأهمية واضحة.. في عالم اليوم.
ها نحن نرقب سوريا اليوم.. بجراحها وآلامها؛ واثقين من تعافيها، وانطلاقها إلى تحقيق آمالها.. رغم الظروف المحيطة والتحديات القادمة.
نقلاً عن «إندبندنت عربية»