نبيل عبدالفتاح
أثَّرت الصورة الرقمية على جميع تفاصيل الحياة اليومية والمهنية، وباتت تمثل سَمت الحياة الرقمية، ومؤثرة على الحياة والأفعال، والسلوكيات الفعلية. أدَّت سلطة الصور الومضاتية الرقمية، والفيديوهات الوجيزة جداً إلى تحوُّل في نمط التلقِّي، والتمثل للواقع الفعلي في السياسة، والفنون، والأدب ولوقائع الحياة اليومية، وأثرت أيضاً في عديد الأجيال حتى كبار السن والشباب، والصبية، والأطفال، من حيث علاقاتهم ببعضهم بعضاً، ومفاهيم الزمن، والصداقة، والحب، التي تحولت من الفعلي إلى الرقمي، في الاتصال، والتفاعل، والمشاركة في تفضيلاتهم للصور، والمشاعر، والطعام، والملبس والمشرب، والأمكنة، والآراء في الأحداث السياسية الداخلية، والخارجية في المنطقة والعالم، وفي النميمة وحكاياتها الوجيزة، وفي المخادنات، والعلاقات خارج الزواج… إلخ!
تغيير متسارع في أنماط الحياة وثقافاتها المتعددة في عالمنا، كشف عن حلول ثقافات رقمية، ورغبات جديدة محمولة عليها تحل محل ما كان يطلق عليه الثقافة العليا والرفيعة في الفنون، والآداب، والفن التشكيلي، والسينما، والمسرح، وامتد ذلك إلى ثقافة الترفيه، والاستهلاك السريع لها، على نحو ما يبدو في تقطيع الأغاني، والقطع الموسيقية إلى أجزاء صغيرة، وأيضاً الأفلام السينمائية إلى مشاهد تُعرض على أجهزة المحمول، أو اللوح الرقمي، لكي تستهلكها الأجيال الشابة.
امتدت سلطة الصور الرقمية والفيديو الطلقة على مواقع التواصل الاجتماعي لتشمل نصوصاً وجيزة من رواية، أو قصة قصيرة، أو أبياتاً من قصيدة، إلا أن أخطر الظواهر الاستعراضية قاطبة تتمثل في معارض الكتب العربية، أو في إعلانات دور النشر عن الكتب الجديدة، حيث باتت صورة الكاتب أو الكاتبة وأصدقائها، ومعهم الكتاب هي الأهم، ومركز اهتماماتهم، ومن ثم بات الحضور الرقمي للكتاب، يمثل نمط الاستعراض الرئيسي في حياة الأجيال الجديدة من بعض الروائيين والروائيات، والشعراء، وبعض الكُتاب والصحفيين، في ظل تراجُع طقس القراءة المتأنية كما كان يحدث قبل الثورة الرقمية، والقراءة الومضة، والنظرات الخاطفة للصورة، والفيديوهات، ومقاطع الأفلام السينمائية، والأغنيات، والقطع الموسيقية.
لم تعد صورة الكتاب والكاتب محض إعلان، أو ترويج له ولمحتواه، وإنما باتت صورته وكاتبه هي الحاضرة في وسائل التواصل الاجتماعي، ويبدو أن محتوى العمل الأدبي والفكري يتراجع لصالح صورته، وغلافه، وربما بعض السطور على ظهر الغلاف تشير إلى بعض محتواه في عمومية، أو فهرست الكتاب أياً كان، لحث بعض القراء على اقتنائه!
تراجع الخطاب النقدي، في ظل التطبيقات النظرية المستعارة من المتون النظرية الغربية، وترجماتها الآلية، أو غير الدقيقة، وممارستها التطبيقية دونما تمثُّل خلاقٍ في تطبيقها على الأعمال الأدبية المصرية والعربية، على نحو بدت معه محمولة على التكلف والتصنع، ومن ثم بدت فجوات بينها وبين النصوص موضع النقد التطبيقي، وغامت معها روح التمثل الخلاق لهذه النظريات، في تطبيقاتها التحليلية للنصوص الإبداعية الملهمة.
غابت الخطابات النقدية التي تعتمد على استيعاب وتمثل النظريات والمفاهيم والاصطلاحات الأدبية المستعارة من المتون الغربية، وأيضاً من الشكلانيين الروس، وغيرهم من المدارس، ثم التطبيقات الخلاقة لها على الإنتاج الأدبي المصري والعربي – الشعري والروائي والقصصي والمسرحي مع حساسية وذائقة أجنبية ولغوية مبدعة.
بعض الخطابات النقدية اللامعة كانت تحلل نقدياً بعض النصوص الأدبية، مع التنظير المباشر لها، على خلفية استيعاب الموروث النقدي والبلاغي العربي، والغربي في تواشُج وائتلاف خلاق، مرجعه تكوين الناقد الرصين المبدع.
ارتبطت حركة الإبداع المصري والعربي بحركية ثقافية ونقدية في المجتمع شبه الليبرالي، ثم في مرحلة التحرر الوطني في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وفي ظل الثقافة الورقية – إذا جاز التعبير وساغ – والندوات والجمعيات الأدبية، والصحف والمجلات الثقافية البارزة، وحركية التفاعلات الجيلية، في مصر، ولبنان، وسوريا، والعراق، وتفجُّر حساسيات أدبية مختلفة، وتفاعلات مع الإنتاج الأدبي في أوروبا الشرقية، والاتحاد السوفيتي السابق، وأمريكا اللاتينية وأفريقيا والمدارس الأدبية والنقدية، والسينمائية الأوروبية والأمريكية.
من هنا واكب النقاد المبدعون الأعمال الروائية والقصصية والمسرحية من عقود الخمسينيات، حتى السبعينيات، واستطاعوا تقديم الوجوه والإبداعات المختلفة لجيلي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، من الروائيين والقصاصين، والشعراء، والمسرحيين وكرَّسوا حضورهم الخلاق في المشهد الأدبي.
استمر هذا الاتجاه النقدي مع جيلي السبعينيات والثمانينيات من النقاد الذين واكبوا أعمال أجيالهم، وتم تقديم بعض المبدعين من جيلي الثمانينيات والتسعينيات الذين شكَّلوا حالة خاصة في الأدب المصري والعربي، من حيث القطيعة مع عالم السرديات الكبرى التي شاغلت عوالم الأجيال السابقة، وبات الفضاء الأدبي يدور حول هموم الذات والاغتراب في عالم مختلف، ومدن مريَّفة ضاجَّة بالصخب والعنف، والانفجارات السكانية.
مع ثقافة النفط وتظاهراتها، والألفية الجديدة، والثورة الرقمية، حدثت تغيرات كبرى من حيث الاهتمام ببعض الأصوات الأدبية بقطع النظر عن مستوياتهم الإبداعية على نحو أثَّر على الحركة النقدية، التي تفككت وهُمشت كنتاج لشيوع بعض من الشللية النقدية، وغياب الأصوات النقدية ذات الثقل. هذا النمط من النقد التطبيقي الآلي – إذا جاز التعبير وساغ – أدى إلى تهميش هذا النمط من الخطابات النقدية، وبروز فجوات واسعة بين الخطابات النقدية والقراء.
نقلاً عن «الأهرام»