Times of Egypt

سلام على الطريقة الإسرائيلية

M.Adam
د. أحمد يوسف أحمد  

د. أحمد يوسف أحمد

لا شك في أن نوعاً من التفاؤل الحذر قد ساد.. بعد التوصل لاتفاق وقف إطلاق النار في غزة. أما التفاؤل فكان مبعثه وقف الإراقة الإسرائيلية المجنونة للدماء الفلسطينية، والنص على عدم تهجير سكانها أو ضمِّها لإسرائيل، وكلها إنجازات ما كانت لتتحقق.. لولا صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته، الذي أثبت عجز القوة العسكرية لإسرائيل.. عن تحقيق أهدافها، رغم تفوقها الساحق في القتل والتدمير.

 وأما الحذر، فمردُّه الحقائق المتعلقة بإسرائيل ومجتمعها.. الذي يغلب عليه التطرف والتعصب، وحكومتها الأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل، ورئيس وزرائها الذي لا شك في أنه صاحب مصلحة أكيدة.. في حروب بلا نهاية، حتى يتفادى إحكام قبضة العدالة حول عنقه، ولهذ رأيناه يتنقَّل بين جبهات الحرب في غزة والضفة ولبنان واليمن وإيران وسوريا.. كما لو كان في جولة سياحية ترفيهية، ويقيم كل العراقيل الممكنة بوجه محاولات التوصل لهدنة؛ فإن نجحت.. انتهكها في أول مناسبة لأوهي الذرائع، كما فعل في هدنتي نوفمبر 2023 ويناير 2025، ولذلك تولَّد من هذا الحذر.. التشاؤم من أن نتنياهو سيفعل المستحيل، من أجل إجهاض اتفاق وقف إطلاق النار الأخير؛ خاصة أن إمعان النظر فيه، يؤكد أنه لم يحقق له نصره المطلق المزعوم.. وقد كان، وشهدت التطورات بعد بدء سريان الاتفاق ما يؤكد هذه المخاوف.

فمنذ البداية حرص نتنياهو على أن يُرَسِّخ مقولة إن الاتفاق حقق له نصراً مطلقاً، وهي مقولة فاسدة، لأن الاتفاق وإن أعاد له بقية أسراه.. تطلَّب منه دفع ثمن باهظ، وهو الإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين؛ بعضهم من ذوي الأحكام العالية، كما أنه.. وإن نص على إخراج «حماس» من معادلة الحكم ونزع سلاحها، ربط ذلك بالانسحاب الإسرائيلي من غزة، كذلك فإن الاتفاق أنهى الاحتكار الإسرائيلي لملف غزة. ومع أنه استبدل به احتكاراً أمريكياً، إلا أنه بدَّد مقولة نتنياهو عن السيطرة الأمنية المطلقة والدائمة على غزة.

ولكي يثبت نتنياهو صحة مقولته الفاسدة رسم، بسلوكه في غزة – بعد بدء سريان الاتفاق – مفهوماً جديداً لوقف إطلاق النار، تلتزم المقاومة وحدها بموجبه بهذا الوقف، أما إسرائيل فقد واصلت غاراتها الجوية وقصفها المدفعي ونسف المباني والمنشآت.. بذرائع واهية مفادها أن هذه الانتهاكات ليست سوى رد على خروقات المقاومة. وهي خروقات ما أسهل افتعالها عن طريق عملاء لها، أو الكذب بشأن وقوعها أصلاً، ناهيك بعدم التناسب في الرد؛ كما حدث في واقعة مقتل اثنين من الجنود الإسرائيليين، وإصابة آخرَين.. في رفح في أكتوبر الماضي. وهي الواقعة التي تفاخر نتنياهو بعدها بأنه أسقط 150 طناً من القنابل على غزة.

 والواقع، أن هذا السلوك الإسرائيلي يؤكد ضرورة محاسبة إسرائيل على جرائمها، فمنذ بدأت المواجهة – بعد أكتوبر 2023 – أمعنت في ادعاءاتها الكاذبة دون رقيب أو حسيب، فهي تقصف كل شيء.. بما في ذلك المستشفيات ودور العبادة، وتنسف الأبراج السكنية.. بل وأحياء بأكملها، بدعوى اختباء قادة المقاومة وعناصرها داخلها، وتقتل الصحفيين.. بدعوى انتمائهم للمقاومة، دون أن تقدم دليلاً واحداً على صحة ادعاءاتها، بل إن وقائع ما بعد جرائمها.. لا تنطوي على أي شواهد.. على صحة هذه الادعاءات، فلم تخرج علينا يوماً بمقاوم قتلته أو اعتقلته بعد تلك الجرائم. وكم من مرة أعلنت عن مقتل قياديين في المقاومة، ثبت لاحقاً أنهم على قيد الحياة، بل إن واقعة استشهاد «السنوار» تدل على قصور معلوماتهم الاستخبارية وعدم دقتها.

ويثير هذا كله، ضرورة الإصرار على وجود لجان فاعلة ومحايدة.. لمراقبة التزام الأطراف بالاتفاق، علماً بأنها وُجدت أحياناً.. دون أدنى فاعلية؛ كما تُظْهِر تجربة وقف إطلاق النار في لبنان منذ نوڤمبر الماضي، التي تُكرِّر نموذج الممارسة الإسرائيلية في غزة حرفياً، ويُضاف لكل ما سبق تعسف إسرائيل في تنفيذ التزاماتها، كما في مسألة إدخال المساعدات وفقاً لنص الاتفاق، أو تَحَكُّمِها في منع إدخال مساعدات بعينها.. لا غنى عنها لمواجهة الكارثة الإنسانية الشاملة، التي يعيشها أهل غزة، بدعوى تلكؤ المقاومة في تسليم جثامين الأسرى الذين قتلهم القصف الإسرائيلي العشوائي.

وعلى الرغم من الدور الأمريكي – الذي لا يُنكَر في التوصل لوقف إطلاق النار – إلا أن ردود الفعل الأمريكية لانتهاكات إسرائيل شجَّعتها على الاستمرار في هذه الانتهاكات، بل والتمادي فيها؛ فمن ناحية.. لم يرَ ترامب وإدارته أبداً في هذا السلوك الإسرائيلي، ما يمثل تهديداً لوقف إطلاق النار. بل على العكس كان التأكيد دائماً منه ومن مساعديه على صمود وقف إطلاق النار، فضلاً عن بعض التهديدات الخشنة.. التي كانوا يطلقونها بوجه المقاومة من حين لآخر، مع أنها هي الملتزمة بوقف إطلاق النار. ومن ناحية ثانية فإن إسرائيل تبدو المنتصرة حتى الآن.. في أي خلاف مع الإدارة الأمريكية حول تنفيذ الاتفاق.

وأكتفي في هذا الصدد بالخلاف بشأن عناصر المقاومة – المتبقين في أنفاق رفح – الذين رأت الإدارة الأمريكية أن يُسمح لهم بممر آمن.. للخروج مع تسليم أسلحتهم؛ كبادرة لنموذج يمكن تطبيقه في العملية المعقَّدة.. لنزع سلاح المقاومة. بينما كان موقف نتنياهو القاطع.. هو الاستسلام، أو الموت في الأنفاق. ورغم الجهود الحقيقية التي بذلتها الإدارة الأمريكية معه، فإن الواضح حتى الآن.. أن وجهة نظره هي التي انتصرت. 

ويعتبر ذلك، نذير شؤم لما هو قادم. ولا يقل خطورة، أن آخر بيان إسرائيلي عن انتهاكات وقف إطلاق النار، أشار إلى إبلاغ المركز الأمريكي لمراقبة الاتفاق بالعمليات الإسرائيلية، بما يعني أنها تحظى بموافقة أمريكية ضمنية. ولكل ما سبق، تبدو الصورة شديدة القتامة.. بالنسبة لمستقبل تنفيذ الاتفاق، ناهيك بما يجري في الضفة من جرائم بشعة، وهو استنتاج يحتاج معالجة مستقلة.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة