Times of Egypt

«سلامة» وسلاح الرأي

M.Adam
وجيه وهبة 

وجيه وهبة

جرِّب أن تسأل أي طالب من أي مرحلة تعليمية.. ماذا يعرف عن «سلامة موسى». لن تحصل على إجابة، أو ستحصل على إجابة مضحكة، تعكس مدى عبثية ما نسميه تعليماً وما ندعيه من ثقافة، بل ربما لو توسعنا ووجهنا السؤال إلى عينة عشوائية تمثل مختلف الفئات العمرية، لكانت النتيجة واحدة، فعلى الأغلب والأعم.. لن يعرفه أحد. 

فلا المنظومة التعليمية، ولا المنظومة الثقافية، تسمحان بتسرب أفكار طليعية.. ممن هم مثل «سلامة موسى». هذا الذي يُعد من أهم رواد التنوير الحقيقي والنهضة المجهَضة، في النصف الأول من القرن العشرين.

■ عاش «سلامة موسى» (1887- 1958) مناضلاً من أجل بسطاء الناس.. المغلوبين على أمرهم من المصريين. أجاد اللغتين الإنجليزية والفرنسية، وترجم منهما وشرح ما رأى فيه فائدة للناس، سواء أكانت كتابات علمية أو فكرية أو أدبية أو سياسية. كان يقتطف من كل بستان من بساتين المعرفة زهرة ليقدمها لبني وطنه ليخوض في معارك شرسة، متعددة الجبهات، في مواجهة تفشي الأمية والجهل والخرافة.

■ كان «سلامة موسى» من أوائل المصريين الذين اعتنقوا الفكر الاشتراكي، ممن أسسوا أول حزب اشتراكي في مصر، وكان اشتراكيّاً فابيّاً، لا يميل إلى التطرف، ويؤمن بالديمقراطية الاجتماعية، وبالتغيير السلمي التدريجي، وكان مبادراً في شرح نظرية «النشوء والارتقاء» عند «داروين»، وسباقاً في تقديم فلسفة «نيتشه» للقارئ المصري، وكان مؤيداً لأستاذ الجيل؛ «أحمد لطفي السيد» في التأكيد على الهوية المصرية؛ «مصر للمصريين»، وكذلك التأكيد على الجذور الفرعونية للهوية المصرية، وذلك في مواجهة أصوات كانت تدعو إلى الانتماء للجامعة الإسلامية، والخلافة العثمانية. 

■ خاض وحيداً معاركه الفكرية، في مواجهة عمالقة ونجوم من معاصريه، من أمثال «العقاد» و«المازني» و«مصطفى صادق الرافعي» و«توفيق الحكيم» وغيرهم، بالإضافة إلى بعض «رجال الدين». ولأنه كان يقول إن الغرض من الأدب في المقام الأول.. هو أن يكون في خدمة «الإنسان» وليس «الجمال» (والفصل بينهما في هذا المقام فصل إجرائي)، فإننا نرى أنه كان الأشد ارتباطاً بالناس وتأثيراً فيهم، وبلغة هي الأقدر على التواصل معهم من لغة أقرانه ومعاصريه.

■ كتب «سلامة موسى» كتاباً بعنوان «أشهَر الخطب ومشاهير الخطباء»، ننقل منه مقاطع من خطبتين، للشاعرين الأديبين؛ «لامارتين» (1790- 1869) وفيكتور هوجو (1802- 1885)، ومحور الخطبتين هو «الرأي» و«التنوير».

«لامارتين»:

بعد ستين عاماً من قيام الثورة الفرنسية، وفي أثناء ثورة سنة 1848 كتب «لامارتين» خطبة يناشد فيها المتطرفين من الجانبين؛ الملكيين والجمهوريين، إعمال العقل، جاء فيها: «.. ما هي الثورة الفرنسية؟ هل هي كما يقول عُبَّاد الأزمنة الماضية فتنة أمة مضطربة لغير سبب؟.. كلا، لم تكن الثورة الفرنسية فتنة منكودة كما يزعمون لأن هبوب الفتن إلى خمود عاجل، وهي لا تترك وراءها سوى الجثث والدمار، وليس مَن ينكر أن الثورة قد خلفت وراءها دماراً وآلات للإعدام، وهذه لها بمثابة وخز الضمير للإنسان، ولكنها قد خلَّفت أيضاً مذهباً، وخلَّفت روحاً ستبقى وتعيش مادام في الإنسان ذهن يفكر.

ولسنا نقول هذا تشيعاً لشيعة، ولسنا نقصد إلى تأليف شيعة، إنما نُكوِّن رأياً، وفي الرأي القوة والشرف والمناعة.. وعلينا أن نشكر آباءنا لذلك؛ لأنهم قد خلّفوا لنا الحرية التي لا تفتقر إلى سلاح لأن سلاحها سلاح السلم.. وإذا سألتموني عن القوة الأدبية التي سترغم الحكومة على النزول على إرادة الأمة لأجبتكم.. إنها الرأي؛ هذه القوة الحديثة التي لم يكن القدماء يعرفون اسمها.

أيها السادة، لقد وُلد الرأي العام يوم اخترع جوتنبرج آلة الطباعة، تلك الصلة التي لا نهاية لها بين الأفكار والعقول الإنسانية. وقوة هذا الرأي العام هذه التي لا نكاد نفهمها لا تحتاج في بسط سلطانها إلى سيف العدل أو إلى آلة الإعدام؛ لأن في يدها ميزان الأفكار والمؤسسات والذهن البشري، وفي إحدى كفتي ميزانها هذا، ستعيش مدة طويلة خرافات العقل البشري والأهواء.. وحقوق الملوك المقدسة، والتمايز في الحقوق بين الطبقات.. واتحاد الدين والحكومة اتحاداً فاسداً، والرقابة على الأفكار، وإسكات زعماء الشعب، وتفشي الجهل بين سواد الأمة، والعمل على الحط من كرامتهم، أما في الكفة الأخرى، فإننا سنضع أخف ما خلقه الله وأقله مادة؛ نعني النور، ذلك النور الذي تفجَر من الثورة الفرنسية عند ختام القرن الماضي، ولا شك أنه تفجر من بركان هو بركان الحق».

«هوجو»:

في عام 1877، وبمناسبة مرور مائة عام على وفاة «فولتير»، ألقى «فيكتور هوجو» خطبة قال فيها:

«منذ مائة عام مات رجل خالد، مات مثقلاً بالسنين وبالأعمال وبأمجد التبعات وأكبرها، ألَا وهي تبعة تنوير ضمير الإنسان وتصحيحه.. مات بين هتاف أهل جيله وخلفهم، وبين نعيب الماضي الذي لا يلين على أولئك الذين يجاهدونه. لقد كان أكبر من رجل، أجل إنه كان عصراً، لقد أتَمَّ عمله وأدى الرسالة التي اختارته لها الإرادة العليا التي تظهر في نظام القدَر كما تظهر في نواميس الطبيعة.

كان القضاة – نظراً للتوحش الديني – يحكمون بقتل الرجل المُسِنّ على عجلة التعذيب، وبنزع لسان الطفل لأنه أنشد أحد الأناشيد. ورأى فولتير هذه الهيئة النكدة النزقة، وأدرك جميع القوى التي عبِّئت عليه من البلاط والأشراف والممولين وهذا السواد الأعمى من الشعب، وهذه المحاكم التي تذل الرعية، وتُستذل للراعي، فتسحق وتتملق وتجثو أمام الملك على رقاب الناس، ثم هؤلاء القساوسة وهم أخلاط مناكيد لا يعرفون سوى النفاق والتعصب، فأعلن عليهم جميعاً الحرب.. فماذا كان سلاحه؟، كان ذلك السلاح الذي هو أخف من الريح ولكن له قوة الصواعق؛ أعني به القلم، فجاهد فولتير بهذا السلاح وظفر به.. لقد انتصر وهو فرد يحارب جموعاً متألبة، وكانت حربه حرباً بين العقل والمادة، بل بين الرأي والهوى، أُثيرت دفاعاً عن المحقين على المبطلين، وعن المستضعفين على الظلمة الجائرين. كانت حرب الدفاع عن الخير والرحمة.. وكان هو عقلاً كبيراً وقلباً عظيماً، هزم القوانين القديمة ودمغ العقائد العتيقة.

انتصر فولتير على أشراف الإقطاعات وعلى قضاة القوط وقساوسة الرومان، ورفع العامة الرعاع إلى مقام الشعب.. وكانت ابتسامته تدمغ العنف، وكان يهزم الاستبداد بتهكمه، ويعبث بالمغرورين، ويثبت أمام المكابرين، ويتغلب على الجهالة بالحق».

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة