Times of Egypt

سعيكم مشكور 

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد 

ظهر لي على أحد المواقع.. ما يلي: نموذج وصيغة خبر نعي وفاة.. فانتبَهت.  

لفت نظري، أن هناك مَن فكَّر في وضع نموذج لكتابة النعي.. كما أن هناك إجابات نموذجية في كتاب سلاح التلميذ، مع الفارق الكبير جداً بين الأمرين. بدأتُ في القراءة، فوجَدتُ أن هناك نماذج تخصُّ الجدَّ والجدَّة، ومدير الشركة، والزميل.. الموظَّف في نفس الشركة، والصديق. 

 وتختلف صيغة النعي من حالة إلى الثانية، فعلى سبيل المثال تزيد جرعة المشاعر الإنسانية، في النعي الخاص بالأجداد.. عبر الإشارة إلى أن فقدانهم، يُعد خسارة لا تُعوَّض، والتذكير باللحظات الجميلة.. التي قضيناها معهم، ونحملها في قلوبنا. وتكون الجرعة الإنسانية أكبر، والنعي أطول.. في حالة الصديق، الذي يوصف بأنه شخص عزيز ومحبوب وطيّب، ومرح وودود، ومصدر للسعادة والضحك والدعم، وتركَ بصمة في حياة كل الناس، وأن رحيله المفاجئ.. مثَّل صدمة كبيرة للجميع.  

وفي المقابل، فإن نعي المدير.. يتميَّز بالتحفُّظ؛ لأسباب مفهومة، مع التركيز على الاستعداد لتقديم أي نوع من الدعم والمساندة لأهل الفقيد. وبالإضافة إلى هذه النماذج المتخصَّصة، نجد أن هناك نموذجاً يتضمَّن الخطوات العامة، المطلوب اتباعها.. عند كتابة إعلان الوفاة. وتبدأ هذه الخطوات بإعلان الوفاة في وسط الصفحة، ثم البسملة، ثم آية قرآنية عادةً ما تكون «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربِّك راضيةً مرضيةً فادخلي في عبادي وادخلي جنَّتي»، ثم بمزيد من الحزن والأسى وبقلوب راضية بقضاء الله تُوفِّي إلى رحمة الله فلان الفلاني، ثم التفاصيل الخاصة بترتيبات الجنازة، ثم إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ويمكن في النهاية.. الدعاء للمتوفَّى، بأن يُدخله الله فسيح جنَّاته. 
*** 
وكما هو واضح، فإن ما سبق يحمل خلطاً.. بين النعي الذي هو الإعلان عن واقعة الوفاة، وبين المشاطرة التي تهدف إلى الإعراب عن المواساة. لكن مسألة الخلط هذه، ليست هي بيت القصيد على الإطلاق، أما بيت القصيد، فهو تصوُّر إمكانية تعليب المشاعر الإنسانية وقولبتها، وافتراض أن هناك تعبيرات نموذجية للإفصاح عن تلك المشاعر، وهو ما لم يكن أبداً يمكن تصوُّره.. قبل عصر الروبوت والإنسان الآلي.  

عشت في أسرة.. تتعامل مع ظاهرة الموت بجلالٍ شديد، وتعطي أداء واجب العزاء أهمية قصوى.. لأن الناس لبعض. وما زلت أذكر كيف كان والدايَّ يبدآن قراءة صحيفة الأهرام.. من صفحة الوفيات، ثم ينتقلان إلى الصفحة الأخيرة؛ حيث العامود اليومي لأحمد بهاء الدين، ويوميات كمال الملاخ. وعندما شعر أبي بدنوِّ الأجل، كتب نعيه.. بخطِّه المنمنم الجميل، وبعناية شديدة.. حتى لا ينسى أحداً من الأهل؛ فلقد كان من الممكن.. أن يتسبَّب النسيان في أزمة عائلية كبيرة. إلى هذا الحد، كانت مراعاة خواطر الأقارب.  

وعندما ضعف نظر أمي، كانت تُجلس ابني – وهو في الثانية عشرة من عمره – ليقرأ لها صفحة الوفيات. ولولا حُبُّه الشديد لها، لما أقدم على هذا الواجب الثقيل. هكذا كنَّا نتعامل مع ظاهرة الموت. أما النعي النموذجي، والسرادقات.. التي يتم تصويرها بالڤيديو، فهذا كله جديد فى جديد. أفتح قوسين لأقول.. إنه إذا كان أصحاب فكرة النعي النموذجي، قد فعلوا ذلك دون مقابل، فإن هناك مَن يتقاضون مقابلاً مادياً.. نظير إتمام الإجراءات؛ بما في ذلك توفير ما يسمّونه بالهدايا التذكارية.. أي المصاحف والسِبَح وسجاجيد الصلاة، فكما أننا عشنا لنرى الـ wedding planner، فإننا أيضاً عشنا لنرى الـ funeral planner. 
*** 
الحزن – مثله مثل كل المشاعر الأخرى – ينبع من داخل النفس البشرية، ولا يمكن أن يعبّر عنه بتلقائية وصدق.. إلا الشخص الذي يشعر به فعلاً، وما عدا ذلك.. يكون مفتعلاً ومزيفاً، وقد يكون تجارياً في بعض الأحيان. والفارق بين الاثنين، هو نفس الفارق بين الشيء المطبوع، والشيء المصنوع.. أي المفتعل، باستعارة عبارة عبد القادر المازني.  

ولذلك، فعندما قرأتُ موضوع نماذج النعي هذه، وبعد أن زالت الدهشة الأولى، والمفاجأة اللحظية، تذكّرتُ كعادتي مشهداً سينمائياً طريفاً. المشهد مأخوذ من فيلم «علموني الحب»؛ وكان فيه عبد السلام النابلسي، يملي على صديقه أحمد رمزي.. خطاب حب، ليبعث به رمزي إلى حبيبته إيمان. قال له النابلسي كلاماً (يفطّس من الضحك) لا علاقة له لا بأي شيء، من نوع «تحيّة كالنسيم العليل البليل.. من عصفور أصابه النهيل. هذا العصفور المسكين، أصابته عاصفة غضبك.. فانكسر جناحه، واحسرتاه، ريشه منتوف، وعقله مهفوف، ورأسه مكشوف»!!! وكادت تحدث كارثة، لو وصل هذا (الأي كلام) لإيمان، لولا تدخُّل سعد عبد الوهاب.. الذي قال «الحب مش ألفاظ، الحب إحساس، وتأكّد إن الكلام مهما يكون بسيط، لازم يمس القلب». الحزن أيضاً إحساس. 
*** 
إمعاناً في السخرية، نتخيّل مثلاً.. أن أحد الأشخاص قد نقل نموذج المواساة المقترح.. في مناسبة وفاة صديق، فكتب عنه دون أي تفكير.. أنه كان ضحوكاً مرحاً ودوداً، وأن وفاته كانت مفاجئة، بينما لم يكن هذا الكلام مناسباً.. لا لشخصية المتوفَّى، ولا لظرف الوفاة.  

فماذا يكون الحال؟ وأي أثر تتركه المواساة المفتعلة لدى الطرف الآخر؟  

هنا أيضاً أستدعي مشهداً من فيلم «سلامة في خير»، عندما ألقى نجيب الريحاني – في حفل يحضره علية القوم – خطاباً.. كان من المفترض أن يلقيه، عندما يزور أحد ملاجئ الأيتام؛ فقال «لقد جمعوكم في هذا الملجأ.. من الأزقة والشوارع». وعندما زجره المرافقون له.. على هذا الخطأ الفادح، وصف الأزقّة والشوارع بـ«الفخمة الفاخرة»، ثم مضى مسترسلاً «وأنقذوكم من التسوُّل والتسكُّع.. على أبواب القهاوي»، فعاد مرافقوه لزجره، فغيَّر كلامه كالتالي «والسرايات والڤيلات والقصور».  

القصد، أن خطبة الريحاني لم تكن تناسب المقام.. الذي أُلقيت فيه، كما قد لا تناسب الصفات المذكورة في النموذج الموحّد.. شخصية المتوفَّى، أو ظروف وفاته. 
*** 
في وسط هذا العالم.. شديد المادية، الذي يتلاعب فيه الذكاء الاصطناعي بالصور والكلام، نحتاج إلى أن نتمسَّك جداً بذواتنا، وأن نتشبَّث بإنسانيتنا، وأن نميَّز بين الأشياء.. التي يمكن أن يطولها التغيير، والأشياء الأخرى.. التي لا تقبل هذا التغيير؛ فأخشى ما أخشاه.. أنه بدلاً من انتظار أن يزرع إيلون ماسك في أدمغتنا.. شرائحه المغرضة، نذهب بأقدامنا إلى الخيار الأشَد سوءاً، فنضع على ألسنتنا كلاماً لا يمثَلنا، ونزرع في صدورنا.. شرائح من المشاعر المزيّفة. 

نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة