Times of Egypt

سرديات الحروب والنزاعات.. عن الصراع المسلح في الرواية العربية 

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن  

لم يكن نصر بن سيار يجافي الحقيقة حين قال: «وإن الحرب أولها الكلام». ففي الحروب تحضر اللغة من أوسع الأبواب، إذ لا يمكن للحرب أن تتفادى الاستعارات؛ طالما أن فيها من التصورات الثقافية والشحنات المعنوية والأساليب الدعائية، بقدر ما فيها من الموجودات المادية المتعلقة بالسلاح والإمداد والخطط القتالية والتدريب. ويدرك القادة العسكريون التاريخيون هذه المسألة جيداً، لذا يحضر المجاز بشدة في خطاباتهم التي تسبق الحرب، أو يطلقونها أثناء جريان المعارك، وحتى بعد أن تضع أوزارها، وهم يعظمون النصر.. إن ظفروا به، ويقللون من شأن الهزائم.. إن سقطت على رؤوسهم. 

وينظر عالم النفس سيجموند فرويد إلى الحرب.. بوصفها ظاهرة مرضية، ودلالة على عدم نضج نفسي لشعب أو حضارة ما. وربط كينيث والتز.. بين الحرب والطبيعة البشرية، وذلك وفق رؤية تمتزج فيها التصورات النفسية والبيولوجية والاجتماعية والثقافية والدينية، إذ أننا مخلوقات خاطئة، طُردنا من جنة عدن، ونميل بطبعنا إلى العنف، وتسيطر علينا الرغبة في الموت، ونحن الحيوانات الوحيدة التي تقتل أبناء جنسها، ولا تمتلك رادعًا يمنعها من ذلك.. 

في الحقيقة ليست الاستعارة وحدها.. التي تُستخدم في مجال الحرب، إنما حيل وتقنيات بلاغية أخرى. لكن العلاقة بين الحرب واللغة.. لا تقتصر على أيام التعبئة للقتال، ولا شحذ الهمم أثناء سريان المعركة، ولا ما يعقبها من إعلان نصر أو تبرير هزيمة، إنما هناك علاقة أعمق، لا يقيمها الساسة ولا الجنرالات.. إنما الأدباء، حين يكتبون عن الحروب – في قلبها أو على هامشها، أثناء دوران عجلاتها أو بعدما تتوقف – نصوصاً شعرية أو نثرية، قصائد أو سرديات. 

من هذا المنطلق، قرأت مؤخراً كتاباً مهماً للدكتورة أماني فؤاد – أستاذ النقد الأدبي بأكاديمية الفنون – عنوانه «سرديات الحروب والنزاعات.. تحولات الرؤية والتقنية»، صادر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، ويتصدى لموضوع حيوي للعالم العربي – لا سيما في أيامنا هذه – لأنها لم تقتصر في تحليلها لعينة من الروايات – التي اتخذت من النزاعات موضوعاً لها، على الحرب بمفهومها التقليدي المتعارف عليه – إنما تطرقت إلى أشكالها الأخرى المتعلقة بالحروب الثورية والمقاومة المسلحة، والصراعات والنزاعات والاضطرابات الاجتماعية والفوضى، والتمردات والانقلابات العسكرية. 

توزع الكتاب على خمسة فصول؛ أولها تناول مفهوم أدب الحرب وخصائصه، لا سيما «رواية الحرب»، والثاني عن «اللابطل في رواية الحرب»، والثالث حول الراوى وبنية النص، والرابع عن سرديات الحروب وواقعية الفن، وأخيراً الخامس يتصدى للتقنيات الفنية.. في سرديات الحروب من قبيل موقع الزمان والمكان فيها، واللغة والصورة التي تشكلها، والراوي الذي يعرضها. 

وترى الكاتبة أن المتأمل للمشهد السردي الراهن، يجد أن «النصوص التي تعالج تجربة الثورات والحرب، وما تسفر عنه من نزاعات ومآسٍ إنسانية، هي الكتابة الأكثر حضوراً وتأثيراً في لحظة السرد الراهنة»، وتجوب بنا العالم العربي ملتقطة أي رواية.. تراها معبرة أكثر عن الموضوع الذي تدرسه، لنرى من خلال النصوص السردية كيف انعكست الحروب على الروائيين. 

ولأننا أمام اللحظة الفلسطينية بامتياز، كان من المناسب أن أبحث عن موضع فلسطين في «سرديات الحروب»، وهنا يبين لنا الكتاب كيف أن الرواية الفلسطينية – أو التي يكتبها أدباء من أصول فلسطينية – تقع في قلب هذه الظاهرة، إذ أن الثورة أو النزاع والصراع في فلسطين – المعلق في عنق حركة مقاومة وكفاح دائم، مدني ومسلح – لم يتوقف على مدار ثلاثة أرباع القرن. 

في هذا، ترصد لنا د. أماني فؤاد ما ورد في روايتين فلسطينيتين، عن تأثير الصراعات على النص؛ الأولى: هي رواية «أرواح كليمنجارو» لإبراهيم نصر الله، التي رأينا فيها «إثارة الأبعاد الإنسانية لقصص الضحايا في القضية الفلسطينية، حيث الذوات البشرية التي طالها الإذلال والقهر ولحق بها النقص، وشوهتها العاهات الناتجة عن الحروب، وآثارها الاجتماعية»، لكنها «رغم الفجائع المتوالية، لم يزل يراودها الحلم، والإصرار على الاحتفاظ بالهوية والوطن»، ما ينعكس في تلك النماذج البشرية التي تتشارك في مسابقة لصعود الجبل، والتي ترمز إلى ضرورة أن يتسلق الفلسطينيون الجبل، ويصعدوا فوق هزائمهم، وينتصروا على الإحن، ويصلوا إلى القمة، حيث الهدف المنتظر. 

والرواية الثانية هي «أولاد جيتو.. اسمي آدم» لإلياس خوري، التي تجسد الصمت السياسي والاجتماعي لشعب حوصر، وعانى من ويلات حروب متكررة، يعيش خلف الجدران العازلة، والأسلاك الشائكة. تحكي الرواية نكبة مدينة اللد عام 1948 ومأساة أولئك الذين احتُجزوا وأُجبروا على الصمت المطبق، أو أُجبروا على الرقص قبل أن يحصدهم الرصاص في صابرا وشاتيلا، بينما العالم أيضًا صامت، ومتواطئ مع السردية الإسرائيلية المغلوطة. 

وتلاحظ أماني فؤاد أن الروايات التي تناولت القضية الفلسطينية، لم تقتصر على تناول الصراع ضد إسرائيل فقط، بل رصدت الصراعات والانقسامات الداخلية، والتخوين المتبادل بين الفصائل الفلسطينية، وهو ما ينم عن خلل.. أصاب التوجه وجدول الأولويات والهوية. 

ومن فلسطين، حيث قضية العرب المركزية، يسيح بنا الكتاب على خريطة العالم العربي، متوسلًا باثنتين وخمسين رواية.. لنعرف بها كيف صنعت النزاعات المسلحة مادة لأعمال سردية مهمة؟ وكيف منحتها في الوقت نفسه شكلاً فنياً معيناً؟ وكيف أثرت في تقنيات الكتابة من حيث الشخصيات والصور والبنية واللغة وطريقة الحكي… إلخ؟ وهي مسارات أعطت الكتاب عمقاً نقدياً لافتاً. 

تنتهي أماني فؤاد – في كتابها – إلى عدة نتائج دالة، أقربها إلى الذهن.. أن الغضب الذي صنع – في بعض البلدان العربية – إحناً وحقداً دفيناً، وفى أخرى ناراً ودماً ودماراً، كان جائحاً لدى الأدباء، خصوصاً الروائيين، فشغلهم، وسيطر عليهم، ولم ينفكوا منه إلا بكتابة كل هذه الروايات، التي صوروا فيها ملامح الخوف والضغينة، مع تحول اليوتوبيا التى صاحبت الثورات إلى دِستوبيا، وأعطوا البطولة معنى مغايراً، وهربوا أحياناً في الفانتازيا.. من واقع مقبض بائس موحش، وفي تعدد الأصوات من استبداد الصوت الواحد، وفي الحوار من هيمنة الكاتب على النص، ومن الآني الموجع إلى الآتي المعلق على نوافذ الأمل. 

إن النقاد التفتوا إلى تأثير الأحداث الكبرى على النصوص الروائية؛ مثلما رأينا في دراسات ضافية.. حللت السرديات التي أعقبت حرب 1967، وها هم يتلفتون إلى تأثير الانتفاضات والثورات وحركات التحرير.. الباحثة عن تقرير المصير، على سرديات زماننا. ولعل كتاب د. أماني فؤاد يمثل استهلالًا قوياً على هذا الدرب. 

نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة