Times of Egypt

سجن الفكر.. من القهوة إلى الإنترنت

M.Adam

حسام بدراوي..
أتابع بقلق شديد مناقشة القانون الجديد الذي يُبحث في البرلمان.. حول الفتوى، وأود – قبل إصداره – أن أُدلي بدلوي، تحوطا من أن يُعتبر الرأي بعد صدور القانون أمراً يُعاقب عليه القانون.
كثير من صراعاتنا الفكرية والدينية والاجتماعية لا تنبع من الخلاف في الجوهر، بل من غموض في المعنى، فنحن نتنازع على الكلمات، دون أن نتفق على تعريفها.
»الفتوى»، «الرأي»، «النقد»، «الدين»، «القانون».. كلها كلمات تُلقى في النقاشات اليومية، لكنها كثيراً ما تعني شيئاً مختلفاً لكل قائل وسامع.
فما هي الفتوى؟
الفتوى – في أصلها اللغوي – مأخوذة من الفِتْيا، أي الجواب عن سؤال ديني. أما في الاصطلاح الشرعي، فهي اجتهاد ظني.. يُقدِّمه عالم مسلم مؤهل، رداً على استفتاء في مسألة غير منصوص عليها نصاً قاطعاً.
وبالتالي، فهي: ليست حكماً قضائياً، وليست قانوناً عاماً، ولا تُلزم أحداً.. إلا من اختار العمل بها. بل إن أغلب العلماء اتفقوا على أن الفتوى.. ليست مُلزمة شرعاً، وأنها تحتمل الخطأ والصواب، لأنها عمل بشري. وقد قال الإمام الشاطبي: «المفتي مُخبر عن حكم الله، لكنه قد يُصيب، وقد يُخطئ«.
أما النقد، فهو ليس رفضاً للدين، بل هو عملية عقلية.. تُراجع القول لا القائل، وتُحاكم الفكرة لا النية، والنقد لا يُفترض فيه أن يهدم، بل أن يُنضِج.
والرأي.. هو تعبير عن موقف أو تحليل أو اجتهاد؛ قد يكون دينياً أو علمياً أو وجدانياً، لا يُشترط فيه أن يكون صائباً، لكنه يُعبّر عن حرية فكر مكفولة للفرد.
أما حين تتعارض الفتوى مع القانون أو الدستور، فهنا يُحتكم في الأمر إلى طبيعة الدولة:
في الدولة الدينية، تُقدَّم الفتوى، ولو على حساب الحقوق.
أما في الدولة المدنية – التي تحتكم إلى دستورٍ مدني – فالغلبة للقانون، ولا يُمكن أن يُقيَّد الناس بفتوى، مهما كانت مكانة من أصدرها.
ذلك، لأن الدولة المدنية تحمي التعدد، وتفصل بين ما هو تعبُّدي خالص، وما هو اجتماعي مشترك، وتتيح لكل مواطن.. أن يعتقد ما يشاء، دون أن يُفرَض عليه ما لم يقتنع به بعقله وإرادته.
عبر التاريخ، كثيراً ما وُوجهت الظواهر الجديدة في مجتمعاتنا.. بالتحريم والتكفير، بناءً على الفتاوى، ثم ما لبثت أن تحوّلت هذه المحرَّمات.. إلى أعمدة من أعمدة الحياة اليومية.
القهوة.. مثلاً، حين ظهرت في القرن الخامس عشر، حرَّمها شيوخ المسلمين، واعتبروها من المسكرات أو من «بدع الشيطان»، وكُفِّر من يشربها، أو يجتمع لشربها.. اعتماداً على فتوى علماء الدين، واليوم صارت رمزاً للضيافة، ومن مكونات الهوية الثقافية.
طُردت الطباعة من كثير من البلاد الإسلامية لقرون.. بزعم أنها «تُشوِّش على القرآن» أو تُستخدم «للنشر الفاسد» .وأصبحت اليوم حجر الأساس.. في التعليم والدعوة والثقافة الدينية ذاتها.
كذلك الموسيقى، وتعليم المرأة، والمسرح، وحتى الرياضة.. كل هذه نُظر إليها يوماً بعين الريبة، أو الحرمة – بفتاوى وقتها – ثم أصبحت أدوات نهضة وتنوير. وهذا يطرح سؤالاً خطيراً: لماذا تتكرر هذه الظاهرة؟ ولماذا تُستخدم الفتوى في صدِّ الجديد.. بدلاً من فهمه؟
في الإطار الصحي – وإلى وقت قريب – كانت الدعوة المبنية على الفتوى.. بوجوب ختان البنات، غير قابلة للمناقشة.. برغم وضوح مآسي إجرائها، وضررها البالغ.
اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، ومع كل هذا التطور العلمي، يُطرح في مصر قانون.. يقضي بمنع أي رأي يقترب – من قريب أو بعيد – من الدين، يخالف ما يُفتي فيه كبار العلماء؛ أي احتكار تام.. لما يُعد «صحيحاً» من وجهة نظرهم، وتحويل كل تفكير مستقل أو اجتهاد جديد.. إلى جريمة.
إننا أمام عودة مُقنَّعة للدولة الدينية، ولو تحت غطاء قانوني مدني. فحين يُقنَّن الاحتكار الفكري، وتُغلَق أبواب الاجتهاد، ويُجرَّم النقاش.. فنحن لا نحمي الدين، بل نحبسه في قوالب الماضي، ونجعل من الفتوى سيفاً فوق رقاب المفكرين.
وإذا كانت الفتوى غير مُلزمة، فلماذا القانون؟ ولماذا التخصيص؟
ودعونا نتساءل: ما الفرق بين الفتوى والرأي؟ وهل الفتوى علم، أم سلطة؟ وما علاقتها بالبحوث العلمية والمراجع الرصينة؟
الفتوى – في جوهرها – اجتهاد بشري، يُفترض فيه أن يُبنى على مقاصد الشريعة، وظروف الزمان والمكان. وهي غير مُلزمة شرعاً، لأنها ليست حكماً قضائياً، بل رأيٌ ظنيٌ.. يحتمل الخطأ والصواب.
أما الرأي.. فهو تعبير عن فهم أو موقف أو تحليل، مبني على حرية التفكير.
وإذا تداخلت الفتوى مع العلم، فمن حق المتخصصين في الفقه – كما في الطب أو الاقتصاد والفيزياء – أن يُدلوا بآرائهم، لكن دون أن يُسكتوا الآخرين.
فإذا أصبحت كل فتوى «مقدسة».. لا يجوز مناقشتها، فإننا نُعلي من سلطة البشر فوق العقل، ونُحاكم الباحث والمفكر والأديب.. إن خالف السائد، ونضع الإبداع في قفص الاتهام.
إن الدولة المدنية الحديثة.. لا تُعادي الدين؛ لكنها تفصل بين ما هو ديني تعبُّدي، وما هو مدني إنساني.. قابل للنقد والمراجعة. ولا ينبغي لأي مؤسسة – مهما كانت – أن تحتكر تفسير الدين، أو تمنع النقاش باسمه.
نحن لا نحتاج إلى قانون يمنع النقد، بل نحتاج إلى مساحة للفكر والاجتهاد، وحقٍّ في السؤال والنقاش؛ فبذلك فقط نحمي الدين من الجمود، ونحمي الدولة من الانغلاق، ونحمي الإنسان من الاستبداد.
وقد قال الإمام الشافعي – أحد أعمدة الفقه الإسلامي – «قولي صواب يحتمل الخطأ، وقول غيري خطأ يحتمل الصواب«.
فأين هذا التواضع العلمي.. من التعصب الفكري الذي نراه اليوم؟
وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – «القرآن حمَّال أوجه، فخذوه على أحسن وجوهه». فإذا كان النص – نفسه – متعدد الدلالات، فكيف نحصر تأويله في فتوى واحدة، ونمنع غيرها؟
وفي التاريخ الإسلامي أيضاً، لما سُئل الإمام مالك.. أن يُعمَّم «الموطأ» – كتابه الفقهي – ليكون قانوناً رسمياً للدولة، رفض وقال:» قد بلغني أن أهل العراق عندهم علم، وأهل الشام كذلك، فلا تجعلوا الناس في ضيق«.
هكذا فهم الكبار.. أن تعدد الآراء رحمة، وأن الفقه ليس ديناً في ذاته، بل اجتهاد بشري لفهم الدين.
أما من التاريخ الحديث، فلنتأمل ما قاله المفكر الإمام محمد عبده.. «ليس في الإسلام ما يمنع المسلمين أن يسيروا في أي طريق.. يحقق لهم القوة والعزة، حتى لو سار فيه غيرهم قبلهم». أي أن السبق لا يُعيب، والاجتهاد لا يُمنع.
أكثر من مرة، نادى رئيس البلاد بتجديد الخطاب الديني، ولكننا الآن أمام مشهد جديد؛ مجلس النواب وافق – من حيث المبدأ – على قانون.. يريدون به احتكار الفتوى، والكلام في الدين.. لمجموعة واحدة من الشيوخ.
إنها الدولة الدينية الجديدة، التي تُناقض الدستور.
إن التفكير، وإعمال العقل.. فريضة إسلامية. وكيف لا، وهو دين يخلو من الكهانة، والوساطة بين العبد وربه! حيث يتجه الخطاب القرآني إلى الإنسان الحر العاقل، ليحثه على أن يتفكر في آيات الله في الكون، وفي نفسه؛ ليدرك حقيقة وجوده؛ فلا كهانة، ولا وساطة بين المسلم وربه.
إنني أتعجب، وخبرتي تقول.. إنه لا يوجد في السياسة صُدَف، وأرى هدفاً لعودة فكر الإخوان.. والله أعلم.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة