Times of Egypt

زياد الرحباني.. الجُموح والتجديد «2-2»

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص

زياد الرحباني…المرآة التي عكست المجتمع اللبناني.. الكلمات السابقة كانت عنوان المقال التحليلي الذي نُشر في دورية «الإيكونوميست» العريقة، قبل 10 أيام، حول أهمية وأثر الفنان الموسيقي والكاتب المسرحي زياد الرحباني الذي رحل عن دنيانا في 26 يوليو الماضي. استهلت «الإيكونوميست» تحليلها بعبارة تمهيدية غاية في الأهمية.. مفادها أن: «الفن الجيد يحظى بصدى عابر للأجيال». لذا لم نبالغ في مقالنا الأول المنشور في الأسبوع الماضي، عندما اخترنا وصفاً لزياد الرحباني.. اعتمدناه كعنوان لمقالينا (هذا وسابقه) يعكس فنه وشخصيته.. بالجموح والمجدد. إذ دونما الجموح أو الخروج على المألوف والنمطي والتقليدي، لا يتسنى للمرء أن يقدم فناً يتسم بالإبداع والتجديد. وما الفن الجيد ــ بالفعل ــ الذي يُكتب له الخلود جيلاً بعد جيل.. إلا حصاد الجموح والتجديد.

كان زياد واعياً تماماً بموهبته، ومدركاً أن تلك الموهبة.. حتى تكون مؤثرة، لا بد لها أن تخرج عن المسار التقليدي (بدرجة أو بأخرى).. المتوارث من عباءة ما دأب الموسيقيون والمسرحيون على تقديمه، بما في ذلك المدرسة الرحبانية التي ترعرع في حضنها.

لم يكن خروج زياد يعني إدارة الظهر للمسار الموسيقي والمسرحي السابق له، بل عمل بجدية على مراجعته مراجعة جذرية ومساءلته مساءلة نقدية. ومن ثم، انصرف إلى دراسة إرهاصات تيار التجديد في الموسيقى والمسرح الغنائي العربي، فعاد في دراسته الشاملة إلى لحظة التجديد الأولى التاريخية، واستخلص أبرز ملامحها.. مما قدَّمه الأب المؤسس سيد درويش من إبداعات، ومن بعده أحد أهم المجددين الذين فُتن بهم: الشيخ زكريا أحمد، حسبما كان يُعلن دوماً في أحاديثه.

لم يلجأ زياد بموهبته نحو «الغربنة»، بل اجتهد، مستنداً إلى موهبته، وتربيته الرحبانية، واستيعابه لمقدمات التجديد «السيد درويشية»، وجديد الموسيقى العالمية بأشكالها المتنوعة إلى الأسلوب الموسيقي الخاص به. فأبدع كلمات ونغمات تجمع بين السلاسة والتعقيد.

سلاسة؛ من حيث الوصول للمواطن أي مواطن.. متى استمع إلى أعماله الموسيقية المؤلفة: المغناة وغير المغناة، كذلك إلى أعماله المسرحية بما حملت من أفكار. أسهم في تلك السلاسة، ولا شك، استلهامه لنبض الناس العاديين وما يعانون في حياتهم اليومية وتجسيدها كلمات ونغمات.

وتعقيد؛ من حيث الإبداع والتجديد في التأليف، والتوزيع الموسيقي، والكتابة الغنائية، والمسرحية. نتج عنه إبداعات تجديدية موسيقية شكلاً ومضموناً.

لذا استطاع زياد الرحباني.. في المحصلة، أن يقدم فناً جامحاً مادته الناس، مصاغاً صياغة تجديدية مُبدعة ذات خلطة سحرية تجمع بين الأصول والحداثة. ما مكنه على مدى عقود.. أن يكون قادراً على الاستجابة للتحولات المجتمعية والجيلية والسياسية المطردة، التي كانت تشهدها ليس لبنان فقط، بل المنطقة العربية أيضاً. وأن يكون بالحق والحقيقة؛ وحسب «الإيكونوميست».. مرآة للمجتمع اللبناني والعربي. وأن يحظى بحب الجميع خاصة الشباب. وفي هذا المقام، وكمحاولة لفهم أكثر دقة وعلمية لما أنجزه زياد الرحباني لابد من الاقتراب من الفلسفة التي حكمت سلوكه «الجموح» الذي مهد لتجديده الموسيقي الغنائي والمسرحي.

والبداية في تصوري تنطلق من كتابه النثري: «صديقي الله»؛ الذي كتبه في مرحلة الفتوة، نعم مرحلة الفتوة، (ال12 من عمره) حيث يقدم مفاتيح شخصية زياد التي تحمل بذور الاختلاف وبيقين الإبداع. يبدع زياد نصوصاً بسيطة للغاية، ولكنها تحمل رؤية ذات مضامين غاية في العمق تجاه الآخرين، والمجتمع، والعالم، والله من جهة، والمفاهيم الحاكمة التي تحكم الحياة الإنسانية من جهة أخرى. كما تحدث زياد في هذا النص عن علاقته الخاصة بالله، وعن الإبداع، وأصحاب رأس المال السالبين للحقوق، وعن الإرادة، وعن الفرح، والضحك، وعلاقة الصغار بالكبار، والمعرفة،…، إلخ.

من تلك النصوص نقتطف بعضاً منها كما يلي:

أولاً: في محاولة أولى لتمييز نفسه عن أهله فيما يتعلق بالاقتناء من جانب، وتحديداً الاقتناء المادي من جانب ثانٍ، والأهم في هذا السياق تأكيد الحرية من أبعاد عدة من جانب ثالث يقول زياد في عبارات مكثفة: «كيف أفهمك / يا عصفور قفصنا / إنني أنا غير أهلي / لا أحب أن أقتني / لا أقفاصاً ولا عصافير».

ثانياً: في التقاطة فذة ومبكرة لما آل إليه الواقع من رتابة وخشونة وتَرَدٍ وتراخٍ يقول زياد: «قلت لهم: ألا تسكرون الأبواب / العاصفة هنا عند المفرق. وقالوا: على مر الأيام تعودت الأبواب / وسوف تتسكر وحدها عندما ترى العاصفة. قلت: ألا تسكرونها أنتم بأيديكم القوية قالوا: مللنا الحياة / امتلأت الأرض بالشتائم والحقد / زرعوا خناجر في قلب الكلام / صاروا يعدون ذكياً من يكفر أحسنهم بالله / ذكياً الذي كلامه أكثر الكلام سفالة / وقلت لهم: ألا تسكرون الأبواب…فقالوا: ليت كل همومنا أبواب للتسكير»…

ثالثاً: وحول الأحلام والحقائق يقول زياد:

«الإنسانُ متى عرف الحقائق / سقط عن سرير الأحلام»..

رابعاً: وحول الحرب، نجده يستشرفها مبكراً كما يلي: «انفجر البعيد / ارتجَّ بيتنا / نظرت إلى الزواريب/ الأولاد كالعصافير رفرفوا وطاروا وارتج بيتنا / سقطت صورة عن الحائط…وسمعت كلمة الحرب! وسألت ما الحرب؟ ورأينا البيوت تبكي وهي تهدم / وصراخ أصحابها أعلى من صراخها … وعندما هدأ كل شيء؟ ما هدأ؟ لم تهدأ سوى الأشياء أما الأرواح فالآن ثارت وغضبت وأحست بحب الانتقام».

بهذه الروحية المبكرة واصل زياد الرحباني إبداعه المسرحي الذي انطلق مع انطلاقة الحرب اللبنانية (راجع قائمة المسرحيات وتواريخ إنتاجها في مقال الأسبوع الماضي) في تجربة غير مسبوقة عربياً تقترب من المسرح التسجيلي المقاوم حسب ما عرفه المسرحي والروائي «بيتر فايس» (1916 ــ 1982) حيث يمارس فيه: النقد ضد الخداع، وتزييف الحقائق، والاستغلال، ودعاة الحرب، والفساد، والطائفية،…، إلخ. كما واصل الإبداع الموسيقي منذ التسعينيات حتى يوم «اللي ما بقى بالبيت…وصار لازم يودعنا»…وإن كان فنه سيبقى خالداً…

وبعد، وداعاً زياد، الذي سعدت بلقائه ذات ليلة.. في إحدى زواريب الحمراء بصحبة الفنان التشكيلي والمؤرخ الثقافي محمود الزيباوي…كما سعدت بحضور حفلة له في أغسطس من عام 2000.. في بيت الدين التي أحيتها فيروز… وشكراً أن قدمت لنا فناً مختلفاً يعبر عننا وعن زمننا.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة