Times of Egypt

زياد الرحباني .. الجموح والتجديد «1-2»

M.Adam
سمير مرقص 

سمير مرقص

«يعزّ عليَّ أن تكون أول مرة أكتب عنك فيها.. بعد رحيلك بالجسد، أيها الجَموع المجدِّد: زياد الرحباني»؛ بقينا لفترة طويلة نعتبر – عن بُعد – زياد الرحباني ملحناً موسيقياً شاباً.. يمثل طبعة جديدة شابة للرحابنة، مع فيروز.. خلال الثمانينيات ومطلع التسعينيات. وأذكر أن جيلنا قد احتفى كثيراً بألبوميه الفيروزيين: ع هدير البوسطة (1979/1980)، وكيفك انت (1991)، لما مثله الألبومان من نقلة نوعية موسيقية.. على جميع المستويات بالنسبة.. 

أولاً: لـ «الست فيروز». 

وثانياً: للتكوين الموسيقي.. من حيث الابتكار اللحني. والمزج بين الأساليب الموسيقية المتنوعة المحلية/الشرقية والعالمية الإنسانية الغربية واللاتينية، وغيرهما من موسيقى عالمية، والتوزيع الموسيقي. وثالثاً: النصوص الغنائية المكثفة للغاية، والمستلهمة من العبارات التي يرددها الإنسان، ويتواصل بها في حياته اليومية (ضاق خلقي، كيفك انت، عندي ثقة فيك، في شيء عم بيصير…).

ولكن، تشاء الظروف.. 

أولاً: أن أبدأ فصلاً جديداً من عمري، عندما توليت منصباً إقليمياً.. استدعى السفر الدوري إلى لبنان.. بداية من يناير 1995. وهو سفر لم ينقطع قط، حتى بعد أن تركت المنصب، حتى اليوم. 

وثانياً: أن تكون إقامتي، دوماً، في الحمراء.. ذات القيمة التاريخية الثقافية «الكوزموبوليتانية»؛ حيث المكتبات، ودور السينما والمسارح، و«الكافيهات»، ودور النشر، والصحف الشهيرة؛ النهار والسفير، والفنادق. 

عرفت الحمراء وهي تحاول التعافي.. من آثار الحرب الأهلية – التي امتدت لأكثر من 15 سنة – ووجدتها.. بكل ما لحق بها إبان الحرب، لم تزل تحمل عبقاً من ماضيها.
ولعل هذا ما يفسر ارتباط زياد بها، وارتحاله المبكر إليها، وإصراره على العيش فيها.. حتى يوم غادرنا. وثالثاً: أن أشاهد أكثر من حوار تلفزيوني مع زياد الرحباني، ولعل – من أهم هذه الحوارات آنذاك – الحوار الذي أجرته معه الإعلامية الراحلة جيزيل خوري.. في برنامجها الأشهر «حوار العمر»؛ ففي هذا الحوار الممتد (وفي حوارات لاحقة)، شاهدت حالة إنسانية.. فنية، وسياسية، وثقافية؛ غاية في التركيب، وفي نفس الوقت.. نفسه شديدة البساطة، إذ لفتتني – بداية – سرعة بديهة الرجل، وسخريته اللاذعة، حيث ترشق تعليقاته في مكانها تماماً. والمفارقة.. أنها لا تثير غضب من يسخر منهم، أو السامعين عموماً، بقدر ما تدفعهم إلى الانتباه – بدرجة أو أخرى – حول ما آلت إليه أحوال العباد والبلاد. 

كما لاحظت تالياً، مدى فهمه للواقع اللبناني والعربي والعالمي.. دون ادعاء أو تعالٍ، والتعبير عن ذلك بلغة بسيطة وسلسة، غير متقعرة.. سهلة الوصول إلى المتابعين. وفي حوار تالٍ – حول فن زياد – استمعت لكثيرين.. حول إسهامات زياد الرحباني الموسيقية والفنية والسياسية.

أثارت في – بل فرضت عليَّ – تلك الحوارات.. أن أعيد اكتشاف زياد الرحباني؛ إذ أدركت أنه أكثر من مجرد ملحن للأغاني. فانكببت على التواصل مع أعماله المسرحية، عبر شرائط الكاسيت.. وقتئذ في 1996 وما بعدها؛ سهرية (1973)، ونزل السرور (1974)، وبالنسبة لبكرا شو (1978)، فيلم أمريكي طويل (1980)، وشي فاشل (1983)، وبخصوص الكرامة والشعب العنيد (1993)، ولولا فسحة الأمل (1994).. فاكتشفت كيف تناولت مسرحياته كل تفاصيل الحياة اليومية اللبنانية.. الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والثقافية بالكلمة، والموسيقى.
وأشهد كيف أن الكثير من العبارات – التي وردت في تلك المسرحيات – كان يستعيدها اللبنانيون في حياتهم اليومية، ويطبعها الشباب على «التيشيرتات» و«الماجات» والحيطان.. إلخ. ولاحقاً، كانت جُمًلُه الموسيقية.. تستعمل (كرنّات9 على الهواتف الخليوية – حسب ما يطلق اللبنانيون على الهواتف المحمولة – ومؤخراً بدأت أشهر عباراته المسرحية والحوارية، يتم نشرها عبر وسائل الاتصال الاجتماعي.

أظهرت إبداعات زياد المسرحية.. كيف استطاع أن يكون صوتاً للناس العاديين، وحاملاً همومهم الحياتية وأوجاعهم المعيشية، وكاشفاً عن الزيف الذي يتعرضون له، وعوناً لهم في أن يعوا الحقيقة/الحقائق، ومن ثم تحريرهم من أسر القيود – أي قيود – وتمكينهم من أجل العيش بكرامة.

بلغة أخرى، تمحور الفن لدى زياد حول الإنسان.. اللبناني أولاً – بطبيعة الحال – ولكن نظراً لأنه خاطبه كإنسان.. يعاني الظلم والقهر على جميع الأصعدة، كان من اليسير أن يجد غير اللبناني مشتركات.. مع معاناة اللبناني. فاكتسبت نصوص/موسيقى زياد جمهوراً عريضاً.. من خارج السياق اللبناني. ولعل العمل الفني النموذجي – كلاماً وأنغاماً – الذي يجسد زياد وفنه ونضاله، هو عمل: «أنا مش كافر»؛ التي جاءت في سياق عمله المسرحي.. بخصوص الكرامة والشعب العنيد، التي عرضت بعد توقف الحرب، وبدء تطبيق اتفاق الطائف في سنة 1994.

أنا مش كافر بس الجوع كافر / أنا مش كافر بس المرض كافر

أنا مش كافر بس الفقر كافر والذلّ كافر

أنا مش كافر لكن شو بَعمِلّك.. إذا اجتمعوا فيَّ كل الإشيا الكافرين»…

لقد كان لهذا العمل – وغيره من الأعمال الكثيرة – أثر بالغ في قطاعات عريضة من الناس، وقدرة على أن تكون عابرة للطوائف والأجيال والطبقات. والأهم، أن هذا الأثر ظل حياً وممتداً، وفاعلاً ومتواصلاً.. عبر الزمن جيلاً بعد جيل. 

بلغة أخرى، بقيت كلماته/نغماته.. عصية على النسيان؛ ليس فقط باعتبارها أغاني جيدة ومتميزة، ولكن لأنها أصبحت حاضرة في الذاكرة الجمعية للناس، وجزءاً من قاموسهم الحياتي اليومي. ولعل من العبارات النموذجية – التي تدلل بامتياز على ما سبق – أغنية «في شيء عم بيصير»؛ التي وردت في ألبوم «كيفك انت»، ومنها نقتطف ما يلي: «في شيء بدو يصير في شيء عم بيصير»؛ والتي قام الشباب بإعادة صياغتها – في تنويعة مشتقة.. ذات بعد اجتماعي/سياسي لتصبح: «ما في شيء عم بيصير، بس لِسه في شيء لازم يصير»…

تعكس العبارة – على بساطتها – في طبعتها الغنائية.. فكرة الصيرورة في العموم؛ من حيث إدراك أنه لا سكون في الحياة، ودوماً.. الحياة بما تحمل من علاقات متشابكة، ستنتج جديداً.. بصورة أو أخرى. أما العبارة – في صورتها الشبابية العملية – فهي تأخذنا إلى السياق مباشرة، وكيف يبدو الواقع ساكناً، بيد أن هناك – بالضرورة – ما ينبغي فعله بدرجة أو أخرى.

وبعد، عاش زياد الرحباني حياة «جموحة» أبيّه على التنميط، رافضة للتأطير.. فأمسك «بالتجديد»، حافراً مساراً فنياً / فكرياً مغايراً… 

(ونتابع مقارَبته في مقال الأسبوع المقبل).

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة