محمد أبو الغار
«صيف سويسري».. كتبتها الروائية العراقية التي تقيم في باريس إنعام كجه جي، ونشرتها الدار المصرية اللبنانية. تحكي الرواية عن أربعة عراقيين.. ضمن مئات الآلاف من العراقيين، الذين لجأوا إلى أوروبا بعد الأحداث الدامية والانقلابات المرعبة، وأخيراً الاحتلال الأمريكي، وفي وسط كل ذلك.. حرب مجنونة بدون سبب، استمرت أعواماً بين العراق وإيران.
بطل الرواية حاتم الحاتمي – ويسمونه «سور الصين».. لضخامته – وهو ابن فلاح جاء فقيراً من الجنوب، وعند حضوره الأول لبغداد، نزل في بيت عمته.. المتزوجة من عقيد في الجيش، وتسكن في بيت بحديقة ومن طابقين، وأكل المكرونة لأول مرة في حياته، وقال عن عصير المشمش إن طعمه من خلاصة شراب الملائكة.
قضى سنوات دراسته في مساكن الطلاب، وانضم للتنظيم الحزبي، وانتسب لكلية القانون ونال الشهادة بدون حضور يُذكر. ثم دخل دورة لضباط الأمن، صقلت مواهبه واستعداده الخاص. اكتسب سلطة في الشارع وفي العائلة، وأصبح الجميع يخشاه ولا يتكلم أحد أمامه.
تزوج فتاة مثقفة.. من عائلة دبلوماسية، لم تكن العلاقة بينهما عظيمة، ولكنها تقطعت بعد أن غسلت البدلة العسكرية.. ذات الرائحة النتنة، التي لم يسبق لها أن غُسلت؛ لأنه كان قد تلقاها هدية من الزعيم الأوحد، ومنع تنظيفها.. لأنها سبق أن لمست يد الزعيم، متمثلاً بالكوري الشمالي.. الذي سلم على زعيمه كيم إيل سونج، فتوقف عن غسيل يديه مدى الحياة. قام حاتم بصفع زوجته.. عقاباً على غسلها البدلة فرفضت أن تعاشره بعد ذلك.
تاريخ حاتم رهيب. جاءته مكالمة تليفونية في الفجر.. بأن هناك حفلة إعدام، عليه أن يأتي بسلاحه ليشارك فيها، ويصوب سلاحه على أقرب رفقائه.. الذين تم اعتبارهم خونة متآمرين. أطلق حاتم النار على صديق عمره، وتم الاحتفال مع المجموعة في الحجرة المجاورة.
قفز حاتم من السفينة قبل أن تغرق، وقبل انفراط عقد البلاد.. التي تصورها تدوم للأبد. سافر إلى ألمانيا للعلاج.. ولم يعد، وأخذ باتصالاته ومهارته.. يجدد الإجازات المرضية، مستخدماً موهبته في التأليف وأستاذيته في النفاق، وهكذا استقر أول الأربعة في ألمانيا.
البطل الثاني.. هي بشيرة حسون – جارة حاتم في نفس الشارع في بغداد – التحقت بحزب يساري معارض، وتورطت في نشاط محظور.
اعترضها الأمن، وقبض عليها، وربطوا عينيها وتم ضربها وتعذيبها، وقبل استكمال حفلة التعذيب تصادف وجود حاتم (سور الصين).. الذي طرد المحقق الذي يقوم بالتعذيب، وعندما اعترض قال له (أكلشيه الحزب): «نفذ ثم ناقش».
استطاع حاتم بنفوذه أن ينقذها، ويُنهي أوراقها، وخرجت من الحبس بعد ثلاثة أيام. ساعدها الحزب في الهروب إلى بيروت ثم دمشق ثم عدن، وأخيراً وصلت ألمانيا. خلال هذه الفترة أحبت زميلاً لها في الحزب، وحملت منه واختفى الزميل، فزوجها الحزب من زميل آخر.. وهي حامل في ستة شهور ووضعت ابنتها سندس التي وصلت معها إلى ألمانيا.
بطلنا الثالث غزوان البابلي – الذي قال عنه حاتم: إنه دخل السياسة بقبقاب الحمام – اشترك مع الآلاف في ضاحيتهم الفقيرة.. في تنظيم جهادي إسلامي. حفظ مخطوطات عتيقة، كانوا يتجادلون فيها كل الوقت. وحين اشتعلت الحرب مع إيران.. تم تجنيده، والتحق بأهوال الحرب.. التي قررها الزعيم الأوحد، وبعد الحرب التحق بالجامعة.
في السنة الأولى من الدراسة الجامعية، جاءه زوار الفجر.. اقتحموا بيته ليسألوه عن مكان ابن عمه، وضربوه ضرباً مبرحاً. قلعت أظافره وصُعق بالكهرباء وعُلق في مروحة على السقف. خرج غزوان من السجن إلى الخارج.. وفي النهاية وصل ألمانيا.
البطل الرابع سيدة آشورية – من الأقلية العراقية – تسكن في حي فقير في بغداد، تزوجت فتى فقيراً أصبح لاعب كرة. اسمها دلال، وقد دخلت السجن عدة مرات.. بسبب انضمامها إلى جماعة شهود يهوه، (وهم جماعة تخرج لتخاطب البشر، وتدعوهم للانضمام لهم. ولا يهم إذا كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهوداً)، هم لا يعترفون بالمظاهر الكنسية ولا بالحواجز العرقية أو القومية أو الدينية، هم محايدون سياسياً ويبشرون كل من يقابلهم، وبالطبع كان مكانها السجن، وانتهى بها الحال في ألمانيا.
قررت الحكومة الألمانية أن تحاول مع هؤلاء المهاجرين.. أن يتلقوا علاجاً حديثاً تحت التجربة.. في سويسرا، يمكّنهم من التخلي عن همومهم وأفكارهم الثقيلة، التي حملوها معهم من بلادهم.
وافق أبطالنا الأربعة.. على أخذ هذه العقاقير، فسافروا إلى بازل في سويسرا.. للإقامة فترة طويلة، وبالطبع.. تفهَّموا نوع الدواء، ووافقوا عليه، وأقاموا هناك.
يتحدث أبطالنا الأربعة – مع بعضهم – أحاديث طويلة.. في المدينة المحايدة، شديدة النظافة والنظام والهدوء.
سأل أحدهم: ما هي مواهب السياسي الحقير؟ واتفقوا على أن يكون وضيعاً كالحشرة، ويبصم على كل ما ينطق به المسؤول، ويتطوع للوشاية، ويتنافس في مديح الرفيق الأعلى.
فقالت بشيرة: إن معنى الحقارة الحقيقية.. هو أن يطلب منك المسؤول شبراً، فتمنحه متراً. أما الحقير الدودة.. فهو الذي يكتب تقارير ضد الأبرياء.. بأسلوب بريء مبطن بالخبث.
وعندما سئلت الست دلال قالت: إن أحقرهم هو من يغري زوجة أقرب أصدقائه.
يتجول الجميع في بازل بحرية تامة. وأثناء سير حاتم.. يفاجأ بمنزل مكتوب عليه اسم «هرتزل»؛ مقر اجتماع المؤتمر الصهيوني الأول في عام 1897. أما الدكتور بلاسم (بلا إسم).. فهو شاب من أصول عراقية، هرب من البلاد في سن صغيرة نسبياً، وأصبح طبيباً للأمراض النفسية، وتقرر تعيينه مسؤولاً عن علاج أبطالنا الأربعة، والإشراف على تأثير الدواء على حالتهم.
كان بلاسم يتحدث إليهم، ويحاول أن يساعدهم، وقيل له إن دول اللجوء تخشاهم، وتخاف من سلوكهم.. الذي قد يكون مدمراً، وتود لو اندمجوا في المجتمع.
وعندما سألهم بلاسم عن أي نوع من الإدمان أصابهم، قال حاتم أنا «مدمن قومية عربية»، وقال غزوان أنا «خريج سجون من أهل البيت»، وقالت بشيرة «أنا يسارية»، ودلال قالت « أنا مبشرة». ثم يقول بلاسم: غريبة.. دول اللجوء.. التي تحنو على اللاجئين أكثر من أوطانهم، فتتعهد بعلاجهم وترميم نفوسهم، ولذا جاءوا بهم إلى سويسرا.. لتجريب عقار جديد، يداوي أنواع الهوس.
حدث لقاء جنسي بين بشيرة وحاتم؛ الذي لم يكن متأكداً.. أن بشيرة عرفت أنه هو الذي أنقذها من السجن، لأنها كانت مغمضة العينين، ولكن بشيرة تعرَّفت عليه للوهلة الأولى من صوته.
يأخذون حبات الدواء، ويقول حاتم.. إن شيئاً مهما كان لن يؤثر فيه. يتذكرون أهوال ما حدث لهم ولأقاربهم وأصحابهم في بغداد، ويقول حاتم: أنا سعيد بالأدوية؛ لعلي أنسى ما شاهدته وما حدث لي.
حاول الطبيب الشاب بلاسم.. أن يصاحب سندس – الفتاة الجميلة بنت بشرى – وخرج معها لرؤية معرض بيكاسو.
بدأت الرواية بمشهد عبثي، وانتهت بنفس المشهد.. في مقهى بغدادي، جلس عليه غازي آخر ملوك العراق.. وبجواره رئيس وزرائه نوري السعيد، وعبدالكريم قاسم.. قائد أول انقلاب، ثم صدام.. الذي تخلص من قاسم.
الجميع سُحل أو قُتل.
فهو رمز لصانعي مأساة.. من البداية للنهاية. وفيما بعد النهاية، تعرف أن سندس لم تتزوج بلاسم، وإنما ارتبطت بشخص من العالم الجديد.
الرواية جميلة وعنيفة وقاسية ولكنها ممتعة.
(قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك).
نقلاً عن «المصري اليوم»