خالد عكاشة
هي ليست نظرية بالتأكيد، لكنها حازت على مساحة كبيرة من الشهرة والتداول، جعلتها أقرب للتسمية
التي أُطلقت عليها اختصاراً.. «بيتزا البنتاغون». خلفية المصطلح أنه في عام 1990 التقط فرانك ميكس –
صاحب امتياز سلسلة شهيرة للبيتزا في واشنطن – أن اليوم الأول من أغسطس شهد ارتفاعاً غير
اعتيادي.. في طلبات البيتزا إلى البيت الأبيض ومقر البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية، وفي اليوم
التالي مباشرةً وقع الغزو العراقي للكويت.
تكرَّر الأمر في ديسمبر 1998 – خلال جلسات عزل الرئيس بيل كلينتون – ليدشن المصطلح في هذا
التاريخ.. على لسان وولف بلتزر – المراسل الشهير لشبكة CNN في مقر البنتاغون – موجهاً حديثه على
الهواء.. في تغطية بالغة الأهمية بقوله: «الخلاصة للصحفيين: راقبوا البيتزا دائماً». ولم يتوقف الأمر عند
هذا الحد، بل اكتسب شهرة عريضة، بعد رصد ارتباط هذا الارتفاع الاستثنائي في طلبات البيتزا.. بعدة
أحداث مفصلية، الغالب فيها شن حروب، أو عمليات عسكرية كبرى؛ منها عمليات عاصفة الصحراء
1991، وثعلب الصحراء في العراق 1998.. التي طلب البيت الأبيض يوم انطلاقها بقيمة 11600
دولار.
توارى هذا المصطلح قليلاً لسنوات، ليعود بقوة خلال العام الماضي، وبالنمط الجديد للتقنيات الحديثة..
أُنشئ في أغسطس 2024 حساب على منصة X عُرف باسم «Pentagon Pizza Report»، لمراقبة
وتسجيل بيانات الزيارات المؤشرة على خرائط جوجل.. لمنطقة المطاعم القريبة من المباني الرسمية
للحكومة الأمريكية. وتأكدت شهرة المصطلح عندما ثبت تكرار هذا الارتفاع الاستثنائي في أيام بعينها،
منها يوم 13 أبريل 2024.. في إطلاق إيران لطائرات مُسيَّرة تجاه إسرائيل. والمفارقة المثيرة، أن
الحساب على موقع X نشر يومَي 12 و22 يونيو 2025 – قبل ساعات الهجوم الإسرائيلي على إيران،
واندلاع حرب الاثني عشر يوماً بين البلدين، وفي 22 يونيو.. قبل «ساعة كاملة» من إعلان الرئيس
دونالد ترامب عن الضربات الأمريكية على المنشآت النووية الإيرانية!
الصين الجديدة؛ دفعت وسائل إعلامها الرسمية إلى إطلاق حملة سخرية، استخدمت فيها بيانات الارتفاع
الملحوظ في طلبات البيتزا قرب مقر البنتاغون، مؤكدة أنها ارتفعت أكثر من أربعة أضعاف – عن
مستواها المعتاد – خلال عرض النصر العسكري في بكين الأسبوع الماضي؛ في إشارة إلى الاهتمام
البالغ، الذي أولته واشنطن للحدث.. خاصةً بعد أن وصفه الرئيس دونالد ترامب بـ«المثير للإعجاب»
للغاية. لكن الرئيس الأمريكي – الذي يصعب الإمساك بحقيقة موقفه، أو اعتبار تعليقاته انعكاساً حقيقياً
لموقف بلاده، وقياسات أجهزتها الرئيسية لطبيعة موقف ما أو وزنه – لم يلبث بعد ساعات.. أن أطلق ما
هو أخطر وصادم إلى حد كبير، باتهامه الصين وروسيا وكوريا الشمالية – في اجتماعهم بهذا الحدث –
بأنهم «يتآمرون على الولايات المتحدة». فيما كان حقيقة وزير الدفاع بيت هيجسيت أكثر عقلانيةً
ورصانةً، في حديث يعبر عن الموقف الواقعي لمؤسسات الدولة العميقة الأمريكية، فهو أكد أن واشنطن
لا تسعى إلى صراع مع الصين أو روسيا أو غيرهما.. مؤكداً في الوقت نفسه، أهمية البقاء في «حالة
يقظة».
هذا ما يبدو معبراً بشكل أدق عن الموقف الأمريكي، لكن تفاصيل مشاهد العرض العسكري الصيني، وما
صحبه من ملمح استعراضي مقصود وموجه بالطبع، أن اليقظة الأمريكية تحتاج إلى ترقية كبيرة
وسريعة. وزير الدفاع الأمريكي في حديثه أشار بوضوح إلى أن عروض الاستعراضات العسكرية لا
بأس بها، لكنه يأمل بألا تتحول إلى صراع عسكري فعلي، مؤكداً القوة الأمريكية والمزايا العسكرية
النوعية.. التي تملكها الصين، ويعلمها الطرف الآخر بالضرورة. الثابت أن صراعاً عسكرياً بين الدولتين
غير وارد بالمرة – على الأقل في المدى المنظور، وربما البعيد أيضاً – لكن في ذات الوقت وبشكل مؤكد،
فإن معادلة الردع والتوازن يجري عليها «تحديث استراتيجي» لا تخطئه العين، ولا التقديرات العسكرية
المدققة؛ فالصين تدخل بأقدام ثابتة إلى التنافس في مجال التسلح، وتدعمه بتقنيات تكنولوجية صينية
المنشأ، تنقل قدراتها إلى درجة اعتمادية ذاتية ستحرك المعادلات إلى صالحها في سنوات قليلة مقبلة.. إذا
سارت بذات الوتيرة التي ظهرت عليها في ساحة «تيان آن من» قلب الصين الرمزي.
وبالتأكيد في الوقت الراهن، ليس المقصود بصالح الصين، أن تكون في مواجهة الولايات المتحدة
بالتحديد، وهذا مفهوم تحرص عليه كلتا الدولتين، وتؤكدانه طوال الوقت؛ وهو حقيقة استراتيجية بالفعل،
جرى ترسيخها في المجال الاقتصادي بدرجة معقولة، وإن شابها بعض من التوترات والمشاحنات، ينجح
كلاهما حتى الآن في احتوائها، ووضعها في إطار ومستوى مقبول من الجانبين، لا يصل بها إلى مرحلة
الحرب أو الصدام الاقتصادي المباشر، فالمصالح والمكاسب حاضرة على الجانبين، وكلاهما لم يقرر بعد
التخلي عنها لصالح بدائل أخرى.
يبقى أن «التحديث الاستراتيجي» الصيني – الموجه لما هو أهم وهو المكانة الدولية التي حرصت بكين
على أن تدشن من خلال هذا الحدث الاستثنائي – رسائل لها قدر عال من الخصوصية، بتوقيع الرئيس شي
جين بينغ نفسه.
تاريخياً حرص الرئيس شي على أن يبدو مصححاً للسردية الغربية المهيمنة، التي همّشت دور الصين في
انتصار الحرب العالمية الثانية.. بتأكيد محورية دور بلاده في إحراز النصر، وفي الشراكة التأسيسية
للنظام الدولي. وكان مهماً للغاية – ويعكس بوضوح ملمح الرؤية الاستراتيجية الجديدة للمكانة – أنه ربط
بين ماضي الصين.. بوصفها أمة ضحية، ومستقبلها المنظور.. كونها مهندساً طموحاً لإعادة تشكيل النظام
الدولي. وفي سياق إثبات الجدارة الاستراتيجية للعب هذا الدور، تدرك بكين أن لغة القوة الصلبة تحتل فيه
الموقع الأبرز، لذلك حرصت على كشف وإبراز «الثالوث النووي» الصيني الجديد.. بتقنياته المتطورة،
التي تعكس القدرة على تنفيذ ضربات نووية من الجو والبحر والبر في آن واحد، وهذا يضعها في مصاف
القوى النووية الكبرى، ويفتح لها آفاقاً جديدة كلياً.
الصين وقفت في ميدانها التاريخي؛ محاطةً بدائرة متنامية من الشركاء، وتدشن مكانتها الاستراتيجية..
باعتبارها قائدةً لصوت العالم الجنوبي، القادر على صياغة جديدة للنظام العالمي.. الذي اعتراه كثير من
الاختلالات عبر عقود، هذا أبرز ما يجب على الولايات المتحدة الانتباه والاستعداد له، بدلاً من ترك
صفوف شركائها في دوائر الحيرة القاتلة.
نقلاً عن «الأهرام»