عبدالله عبدالسلام
توقفت طويلاً.. أمام مقال المهندس صلاح دياب – مؤسس «المصري اليوم» – الذي نشرته الجريدة في الخامس من ديسمبر الحالي. فكرة المقال واضحة من عنوانه: «التاريخ يصنعه أفراد عاديون»، وخلاصتها.. أن نهضة أي بلد، تقوم على أكتاف أفراد عاديين.. امتلكوا جرأة الحلم وعبقرية الفكرة، ونحتوا في الصخر من أجل تقدم شعوبهم.. دون أن يتولوا منصباً رسمياً.
كان المهندس صلاح دياب يقصد شخصاً بعينه، يمثل نموذجاً لهؤلاء العاديين.. الذين صنعوا الفارق، وهو الدكتور كامل توفيق دياب.. رائد النهضة الزراعية المصرية الحديثة، الذي نقل الزراعة من طور التقليد المستمر منذ مئات السنين.. إلى عصر الإبداع والإنجاز. لكن الراحل الكبير، الذي مرت ذكرى وفاته العاشرة قبل أيام، لم يكن وحده. لدينا العشرات والعشرات الذين حملوا مصر، بتعبير المستشار الجليل الراحل طارق البشري (1923 – 2021) في مقال شهير له فى مجلة «الكتب وجهات نظر».
أحد أهم النماذج التي تُجسد هذا المعنى، الدكتور العظيم مجدي يعقوب (مواليد 1935)، أطال الله في عمره. تخرج د. مجدي في كلية طب قصر العيني.. مثل آلاف آخرين، لكنه بنى نفسه بنفسه. لم ينتظر منصباً حكومياً، ولم يُزاحم الآخرين. واصل تعليمه في شيكاغو وإنجلترا، وتعلم طرقاً جديدة في جراحات القلب، ثم أصبح مرجعية عالمية في هذا المجال. اهتم بتطوير جراحات نقل القلب منذ عام 1967، وأنجز مع فريقه أكثر من 20 ألف عملية قلب.. في بريطانيا وحدها، ليُطلق عليه الإعلام البريطاني لقب «ملك القلوب». كان يمكن أن يصبح رئيس جامعة أو وزيراً للصحة في مصر، لكننا كنا سنخسر عالماً وجراحاً عبقرياً، وسفيراً فوق العادة لمصر بالخارج.
الدكتور محمد غنيم، أحد رواد زراعة الكُلى في العالم، نموذج آخر. أقام – في مسقط رأسه (المنصورة) – أول مركز متخصص في زراعة الكُلى في الشرق الأوسط. العالم الكبير غيَّر للأفضل حياة آلاف المصريين والعرب. إنه شخص عادي.. ارتفع إلى قامات العظماء الذين غيَّروا تاريخ الطب، وقدموا خدمات جليلة، تعجز عنها وزارات كاملة للصحة.
لكني أعود إلى قصة د. كامل توفيق دياب.. لأنها لا تتحدث عن الماضي فقط، بل حاضرة بقوة في حياتنا، ويمكن إذا جرى تبني أفكار وتجارب الرجل السابقة لعصرها.. أن تحل الكثير من مشاكلنا، خاصة الزراعية والمائية. لم ينتبه كثيرون إلى تجربته عندما حول الري بالغمر، الذي عاشت مصر عليه آلاف السنين، إلى ري مُرَشَّد بالتنقيط، مما وفر 90٪ من المياه المستهلكة. كما وفر 90٪ من السماد المبذور على سطح الأرض. أهمية هذا الإنجاز تنبع من نقطتين: الأولى: أن مصر تواجه أزمة مائية خطيرة، تفاقمت بشدة.. بعد اكتمال بناء سد النهضة الإثيوبي.
وكثيراً ما نقرأ تصريحات لوزير الري.. يشكو فيها من تعنت الجانب الإثيوبي، ويتعهد بالدفاع عن مصالحنا، حتى إن البعض يعتقد أن الحل فى ضرب السد، بينما الحل فيما قام به الراحل كامل توفيق دياب. ولو تبنت الحكومة – أو حتى مؤسسة «حياة كريمة»، أو بنك الائتمان الزراعي – فكرة الري المُرَشَّد بالتنقيط.. على أن نبدأ ولو بمحافظة واحدة، فلنا أن نتصور كم ستوفر مصر من المياه. وهذا ينقلنا للنقطة الثانية، وهي أننا بالمياه المتوفرة.. يمكننا زراعة ليس فقط 10 ملايين فدان، بل 100 مليون وأكثر.
الإنجاز الثاني: للدكتور كامل توفيق دياب تمثل في التصدير الزراعي، إذ كانت فلسفته هي: «نزرع ما يمكن تصديره، بدلاً من أن نزرع ثم نفكر في التصدير». كانت استراتيجية الدولة المطبقة منذ عشرات السنين، هي: «نكتفي ذاتياً ثم نُصدر ما يفيض». هذه الاستراتيجية عفا عليها الزمن. التصدير أصبح هدفاً في حد ذاته. وزير الزراعة علاء فاروق، صرح بأن صادرات مصر ستصل إلى 10 مليارات دولار العام الحالي، مقارنة بـ5 مليارات العام الماضي، وستتضاعف لتصل إلى الحصيلة المثالية لقناة السويس. د. كامل توفيق دياب.. يعود له الفضل في هذا التحول.
هل علينا أن نُعيد اختراع العجلة، ونواصل السير في طريق قديم، بينما العالم لديه أفكار وتجارب ثبت نجاحها؟ هل نُهدر الوقت والجهد.. لإرجاع حصة مصر القديمة من مياه النيل، التي لم تكن تكفي مصر أصلاً.. بدليل أننا لا نزرع سوى 6٪ من أرضنا، أم نطبق أساليب جديدة.. تُنقذنا من الأزمة المائية، التي لم تبدأ مع سد النهضة.. بل قبله بكثير؟
بالمناسبة، لماذا لا يعود المهندس صلاح دياب.. إلى كتابة عموده الشهير «نيوتن»، الذي ما زالت الصحافة المصرية تفتقده بشدة؟
نقلاً عن «المصري اليوم»