عبدالله عبدالسلام
وصف رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل (1874- 1965) آلية صنع القرار في الاتحاد السوفيتي السابق.. بأنها: «لغز ملفوف في لغز، داخل لغز». لم يكن أحد – بمن فيهم بعض كبار مسؤولي الحزب الشيوعي والحكومة السوفيتان – يعرف من يتخذ القرار، ومع من تشاور، وعلى أي معطيات ومعلومات اعتمد.
ليس غريباً أن الاتحاد السوفيتي انهار.. لأسباب عديدة؛ بينها أنه افتقد آلية التشاور والحوار، والاستماع للمتخصصين، فضلاً عن المواطنين العاديين.. أصحاب المصلحة الحقيقية. كان الحزب يحدد – من تلقاء نفسه – كل ما يحتاج إليه المواطن، وكم يجب أن تكون تكلفة كل شيء، وما المقابل الذي يجب دفعه؟ كل ذلك دون التشاور مع المواطن نفسه.
عندما تولى دينج شياو بينج زعامة الصين – بعد وفاة ماوتسي تونج 1976 – أجرى مراجعة شاملة.. للتخلص من هذه المركزية الخانقة. استهل دينج إصلاحاته.. بالاقتصاد، وعزَّز روح المبادرة الفردية لدى الصينيين، ومنح الفلاحين الحق في استغلال أراضيهم، مما ساعد في تحسين مستويات معيشتهم. واصل الزعماء الصينيون بعده الإصلاحات، ولم يتوقفوا عن تطوير آلية صنع القرار، خاصة على المستويات المحلية.
لا أحد يجادل في ديكتاتورية النظام الصيني. الدستور نفسه، يصف نظام الحكم بأنه «ديكتاتورية ديمقراطية شعبية» لتأكيد دور الناس في المشاركة. الديمقراطية التشاورية، تضمن مشاركة واسعة في السياسة المحلية.. من خلال نقاشات تجريها لجان الحزب، والمنظمات الشعبية، والهيئات المحلية.. مع الناس العاديين. وإذا علمنا أنه طبقاً للإحصاءات الرسمية، بلغ عدد أعضاء الحزب الشيوعي نهاية العام الماضي.. أكثر من 99 مليون عضو، بزيادة قدرها 1.1 مليون عن 2022، لأدركنا مدى انخراط الحزب في عملية كبرى للنقاش والحوار وطرح الأفكار، ثم التوصل إلى قرارات تخرج من القاعدة للقمة.
هناك مستويان لصنع القرار..الأول خاص بالأهداف العليا والتوجهات الرئيسية للدولة، وهذا بأيدي قادة الحزب في أعلى مستوياتهم، يقودهم الرئيس شي جين بينج. ظهر ذلك جليا.. فيالمواجهة الصارمة لتفشي وباء كورونا، وعمليات الإغلاق.. التي لم يسبق لها مثيل. إنها سياسة عليا واجبة التنفيذ. لكن القضايا الكبرى، كالسياسة الخارجية والتوجهات الرئيسية للبلاد، لا تشغل الناس العاديين كثيراً. ما يشغلهم هو القضايا اليومية.. التي تمس صميم حياتهم، وهذا هو المستوى الثاني لصنع القرار.
في هذا الشأن، يمارس الحزب الشيوعي ديمقراطية شعبية.. على الطريقة الصينية. يجتمع أعضاؤه في قرية أو بلدة أو حي ما.. لبحث إقامة مشروع اقترحته الحكومة. يتم النقاش والاستماع لآراء الأعضاء، وفي النهاية يتم التصويت.. بالتأييد أو الرفض للمشروع. وإذا افترضنا أن عضو الحزب.. لديه أسرة مؤلفة من 5 أفراد في المتوسط، لنا أن نتصور كيف أن المواطنين العاديين.. إذا اتفقوا على أمر ما، فإن كلامهم يجُبّ رئيس الحي أو مسؤول المدينة. هنا تتحقق ديكتاتورية السكان. هنا تتحقق ديكتاتورية الشعب.
تجربة الصين على المستوى المحلي تستحق.. ليس فقط الدراسة، بل الاستفادة والتطبيق عندنا. سكان أي حي أو أبناء القرية أو البلدة، يجب أن يكونوا أصحاب القرار الحقيقيين.. فيما يتعلق بشؤونهم. لن نطالب بأن نفعل مثل السلطات السويسرية، التي تُجرى استفتاء لسكان حي ما.. لمعرفة رأيهم في مشروع جديد، يمكن أن يغير طبيعته، أو يشوه جماله. لكن التجربة الصينية أسهل وأقرب لنا.
خلال السنوات القليلة الماضية، طرحت محافظة القاهرة مشروعات استثمارية.. في أحياء كالزمالك، آخرها إقامة مطاعم ومقاهي في حديقة «المسلة» التراثية، التي يزيد عمرها على 150 عاماً. عبّر السكان عن غضبهم ومخاوفهم.. من المشروع الذي يشوه الحديقة البالغة مساحتها 12 ألفاً و600 متر. الحديقة نفسها كانت قبل 3 سنوات مهددة أيضاً بمشروع استثماري آخر.. بعد تعاقد المحافظة مع شركة سياحية لإنشاء العجلة الدوارة أو «عين القاهرة».
في سبتمبر الماضي، جرى نقل موقف «الميكروباص» العمومي.. من مدخل مدينة كفرشكر إلى مكان آخر. القرار يستهدف – طبقاً لمحافظة القليوبية – حل مشكلة المواقف العشوائية، وتقليل الكثافة المرورية بالمدخل. ظهرت اعتراضات كثيرة؛ خاصة من سكان القرى.. الذين اشتكوا من مشقة الوصول للموقف.
السؤال: لماذا لا يكون للسكان.. الذين يعيشون في تلك المناطق، وتتأثر حياتهم بأي تغيير فيها.. رأي وقرار؟. إحدى أهم مشاكل مصر، أن القرار يأتي من أعلى لأسفل.. دون أن يمر بمرحلة النقاش، والحوار مع أصحاب المصلحة المباشرين.
هناك آليات كثيرة، تضمن وصول صوت الناس للمسؤول.. قبل اتخاذ قراره، لكن بعضهم – للأسف- يفضل إصدار القرار.. طبقاً للأوراق التي أمامه، أو سعياً لزيادة الموارد المادية.. على حساب مصالح ورغبات الناس، مع أن رضاهم أهم وأبقى.
نقلاً عن «المصري اليوم»