Times of Egypt

دولة القانون والديمقراطية.. والرأسمالية النيوليبرالية

M.Adam
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح

من بداهات الدولة الديمقراطية الليبرالية الحديثة والمعاصرة.. أنها دولة القانون، والحق، والمساواة والمواطنة؛ الحامية للحقوق والحريات العامة، والشخصية/الفردية. في ظل التركيبة البنيوية للدولة؛ ثمة فصل للسلطات الثلاث، وتوزيع القوة على نحو متوازن بينها، والرقابات المتبادلة فيما بين بعضها بعضاً، ناهيك عن رقابة الصحافة، ووسائل الإعلام المرئي والمسموع والرقمي، ومعها رقابات الجموع الرقمية الغفيرة.. على وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك كرقابات للرأي العام – بكل مكوناته وشرائحه الطبقية – على أداء سلطات الدولة. 

الوضعية التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرمزية للدولة القومية الديمقراطية، لم تحدث طفرة واحدة، وإنما تطورت من خلال تطور النظام الرأسمالي، وتوحيده للأسواق، ثم للمجتمعات الأوروبية، وتمدده ليغدو بعدئذ.. نظاماً رأسمالياً عالمياً، وإمبريالياً. الدولة الديمقراطية الليبرالية تطورت مع التطورات التكنولوجية، وثوراتها الصناعية الأربع، وتأثرها بالثورات العلمية، وانعكاساتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً انعكاسات التطورات الكبرى، وفائقة السرعة على هياكل الدولة، وسلطاتها، وعلى قواعد النظام الديمقراطي ومؤسساته السياسية، والثقافة السياسية الديمقراطية في أبعادها ومرجعياتها الفلسفية. 

كان تشكُّل الأمة – كمفهوم سياسي، وثقافي، واجتماعي وهوياتي – سمة رئيسة للدولة الديمقراطية الليبرالية؛ وفي إطار تطوراتها وتحولاتها، حدث التمايز التاريخي بين الدولة والدين والعقائد والمذاهب – أياً كانت – ومن ثم بين الدستور والقانون الوضعي، وبين ما هو ديني، وميتا وضعي لأن الدولة شخص معنوي، وليس شخصاً طبيعياً.. يؤمن أو لا يؤمن بالأديان والمذاهب في المجتمعات الغربية، وباتت حرية الاعتقاد والتدين مطلقة، وفردية. حياد الدولة – كشخص معنوي، ورمزي – إزاء الأديان.. هو إحدى علامات التغير الاجتماعي، والثقافي الأوروبي، والغربي، ومن ثم أدى ذلك – مع الحريات الفردية والعامة، في المجالين العام والخاص، وتطور العلاقات الاقتصادية والإنتاجية الرأسمالية – إلى ميلاد الفردانية، والفرد كفاعل اجتماعي ذو مشيئة، وإرادة سياسية.. على نحو ما أطلق عليه نسبياً – في هذا السياق التاريخي – سبينوزا الإنسان الحر. 

دولة القانون، وفصل السلطات، لم تكتمل، ويتم إنتاجها، من خلال كتابة الدساتير، ووضع القوانين، وفق وضعية المصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتصارعة في مرحلة تاريخية محددة، وكفاح وتضحيات، وتمردات، وثورة أوليفر كرومويل، (1599/1658)، والثورة الفرنسية (1789/1799)، وما بعدها من تغيرات في بنى المجتمع والدولة والنظام والسلطات السياسية والدستورية والقانونية. 

مع تطور النظام الرأسمالي، حدث تغيير مهم.. تمثل في ميل السلطات الشارعة في بعض التشريعات إلى مصالح تتجاوز الطبقة المسيطرة، إلى دائرة اجتماعية أوسع، وتحمل مصالح طبقتي العمال والفلاحين، والطبقة الوسطى-الصغيرة، والوسطى-الوسطى، وذلك في مجال الضمانات الاجتماعية، وفي قوانين أخرى، وذلك حفاظاً على بعض التوازن النسبي بين المصالح المتنافسة والمتصارعة، واستقرار الدولة، والنظام الليبرالي. هذا التغير المهم مرجعه تنامي دور النقابات العمالية، والمهنية، والحريات السياسية العامة، والفردية، والأحزاب السياسية خارج الحكومة، أو داخلها ائتلافياً!

دولة القانون ليست محض نصوص شكلية، وصماء.. في التشريعات التي يصدرها البرلمانات، وتطبق من السلطتين التنفيذية والقضائية، وإنما هي نتاج صراع سياسي واجتماعي واقتصادي، وراءها ضغوط ومصالح متصارعة، والأهم فاعلية الحريات العامة والفردية، وثقافة سياسية وحيوية.. تتجلى في المجال العام، من تظاهرات سلمية، والحق في التجمع السلمي، وحرية التعبير. 

القوانين لا تصدر من البرلمانات دون حوار، ونقاشات جادة.. معبرة عن مصالح تتجاوز أعضاء البرلمانات، في ظل تطور الرأسمالية، وشركاتها الكبرى، وتمويل بعضهم للأحزاب السياسية، والمرشحين في الانتخابات النيابية، على نحو ما تشهده تطورات النظام الحزبي في الولايات المتحدة الأمريكية، والحزبين الديمقراطي، والجمهوري؛ خاصة في ظل النظام النيوليبرالي الاقتصادي، وأيضاً في الانتخابات البرلمانية في بريطانيا، والرئاسية والبرلمانية الفرنسية، وفي ألمانيا، وإيطاليا.. إلخ. 

من الشيِّق ملاحظة أن التقاليد القضائية التاريخية والموروثة، واستقلالية القضاء والجماعة القضائية، تجعلهم يصدرون أحكاماً في مواجهة بعض القادة السياسيين، والرؤساء.. على نحو ما نلاحظ في حالة الحكم على الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، أو ضد بعض من أعضاء الأسرة الملكية البريطانية.. من خرق لقانون وقواعد المرور، أو غيرهم في الدول الأوروبية. استقلالية القضاء والقضاة، ترجع أيضاً إلى تقاليد راسخة، تتمثل في المبادئ القانونية العامة في نظام التعدد – في جهتي المدني والإداري – على نسق القضاء الفرنسي؛ من محكمة النقض، والمحكمة الإدارية العليا، والمجلس الدستوري الفرنسي في الجمهورية الخامسة الفرنسية. ونظام السابقة القضائية في النظام البريطاني والأنجلوساكسوني، وفي النظام الأمريكي، ونظام المحلفين، والمحكمة العليا. 

المبادئ القانونية العامة، تلتزم بها السلطات القضائية، وجماعة القضاة، في مجال الحريات العامة والفردية؛ سواء على المستوى الإجرائي، والمضموني الموضوعي. الأهم أيضاً استقلال النيابة العامة، وعدم خضوعها أو تأثرها بضغوط السلطة التنفيذية.. في قيامها بوظائفها في القضايا الجنائية. 

وفي مجال القضاء الجنائي، ثمة تقاليد راسخة في الضمانات الإجرائية المهمة، وأيضاً في مجال حقوق المتهمين، وضمانات الدفاع، ومفهوم دولة القانون والحق.. تتعرض لبعض التغيرات في عالم فائق التغير، في ظل سطوة الرأسمالية النيوليبرالية، وشركاتها الكونية الضخمة، خاصة الرأسمالية الرقمية الفائقة الثراء.

نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة