أحمد الجمال
يوم الثلاثاء 23 ديسمبر 2025.. هو بداية العقد السابع بعد 23 ديسمبر 1956، الذي هو يوم عيد نصر مصر على دول العدوان الثلاثي.
… هو اليوم الذي أتم فيه البريطانيون والفرنسيون انسحابهم من بورسعيد.. وهو اليوم الذي جعل من تاريخ المنطقة وتاريخ العالم المعاصر.. يتوزع بين: ما قبل السويس، وما بعد السويس.
هو اليوم الذي ألهم قوى التحرر الوطني العالمية.. روح إمكانية انتصار الدول الصغيرة، على الإمبراطوريات الاستعمارية الكبيرة. وهو اليوم الذي ما زال يسعى البعض – ممن تمكنت من أنفسهم وعقولهم الدونية والانسحاق – إلى التهوين من شأنه. بل وإلى اعتبار تأميم القناة، والسيطرة على موارد الثروة الوطنية، والاصطدام بقوى الصهيونية والاستعمار القديم.. مغامرة غير محسوبة!
ولأن تقدم العمر يفرض نشاطاً غير معتاد في الذاكرة.. فقد كنت في العاشرة من عمري عام 1956، وكانت الأسرة الصغيرة تقيم في مدينة دسوق، حيث كان الوالد مدرساً في مدرسة المعلمات، وكنت في الصف الثاني الإعدادي بمدرسة النجاح الإعدادية، وساهمت مع اليافعين والكبار.. في صبغ زجاج النوافذ باللون الأزرق الغامق. وكنا ننظم سيرنا في الشوارع، لننادي.. إذا رأينا بصيصاً من ضوء متسرباً من نافذة: «طفي النور»، وكنا نصعد إلى سطح العمارة المكونة من خمسة طوابق.. لنشاهد ضوء لهيب المدافع والقنابل.. واضحاً في الأفق.. ناحية الشمال والشمال الشرقي، ونشاهد طلقات المدفع المضاد للطائرات.. المنصوب أعلى أكثر البنايات ارتفاعاً، وهي عمارة شكري.. القائمة على شط فرع رشيد، بالقرب من الكوبري المؤدي للبر الغربي.. بين دسوق وبين الرحمانية!
وكنا نرهف السمع للمجموع..ة تنشد «الله أكبر الله أكبر.. الله أكبر فوق كيد المعتدي»..
ولفايدة كامل «دع سمائي فسمائي مُحرقةْ.. دع قناتي فمياهي مُغرِقةْ..
واحذر الأرض فأرضي صاعقة.. هذه أرضي أنا.. وأبي ضحّى هنا
وأبي قال لنا: مزقوا أعداءنا»
الأغنية النشيد.. شديدة الوقع والتأثير، كتب كلماتها الشاعر كمال عبدالحليم، ولحّنها الموسيقار علي إسماعيل، ولكل من الاسمين مسيرة وتاريخ.. في الحركة الوطنية المصرية، لو اتجهت للكتابة عنه في هذه المساحة.. لما اتسعت!
في تلك الأيام، فوجئنا في دسوق.. بأبناء العمومة والخؤولة، وغيرهم من شباب قريتنا «جناج» – مركز قلين آنذاك وبسيون بعد ذلك – يتدفقون على مراكز التطوع للحرس الوطني، وكانوا يصرون على الأمر.. لأن الالتحاق بـ «الديش» – أي الجيش – (إذ كانت الجيم تقلب دالاً)؛ هو الشرف لكل الرجال!
ثم مضت سنون طويلة، إلى أن شاركت في إحدى حلقات البرنامج – الذي كان يقدمه فيصل القاسم بالجزيرة «الاتجاه المعاكس» عام 2004 – وكان من يناظرني هو الدكتور محمود جامع، وكان الموضوع عن ثورة يوليو وعبدالناصر، وفيه أتى الحوار الساخن عن قضية تأميم القناة، وتدخل بالهاتف أحد مواطني الكويت هو سامي النصف، الذي وجه انتقاداً حاداً لي، ولزعيمي جمال عبدالناصر. ووصفني بأنني مجرد ظاهرة صوتية مثله، وأن تأميم القناة لم يكن له لزوم، لأنها كانت ستعود لمصر أوتوماتيكياً عام 1968، وطبعا لا لزوم لكتابة ما رددت به عليه.. فربما يعاقب عليه القانون، ولكنني سُقت مثالاً باتفاقية جبل طارق، التي كانت تنص على رحيل بريطانيا عام 1968 ولم ترحل، وذكّرت المتداخل الكويتي.. بأنه إذا لم يكن لناصر فضل، إلا فضل منع عبدالكريم قاسم من احتلال الكويت.. أواخر الخمسينيات.. لكفاه. وليسكن في ضمير كل كويتي – اكتوى بنار غزو العراق لبلدهم بعد ذلك! – ثم تأتي المفاجأة الكبرى في السياق نفسه، عندما أفرج عن الوثائق البريطانية لتلك الفترة، وقام موقع هيئة الإذاعة البريطانية بإذاعة ونشر بعض الوثائق السرية، بواسطة الإعلامي عامر سلطان، وفيها أن بريطانيا والغرب، كانوا يخططون لعدم تسليم القناة لمصر.. حسب نصوص معاهدة القسطنطينية عام 1888.
وتضمنت خطة بريطانيا عدة بدائل، أولها: إقامة تحالف عسكري.. يتدخل بقواته العسكرية لإيقاف أي محاولة مصرية لاسترداد القناة. وثانيها: أن يتدخل حلف الناتو.. لو حاولت مصر تأميم القناة. أما البديل الثالث: فهو إقامة تحالف شركات أجنبية.. يستولي على القناة، ويتسلمها.. فور الإعلان عن انتهاء عقد الامتياز الذي دام تسعة وتسعين عاماً. ويكون نصيب مصر من العائد.. هو الربع فقط. والثلاثة أرباع للأجانب.
وقد أسهبت في مقال سابق نشر في 19 يونيو 2025.. عن بقية محتويات الوثائق البريطانية. ورغم كل ما في ملحمة النضال الوطني المصري من جهد وبطولات، لا نعدم نعيق المصابين بالدونية والانحطاط.. يزعقون لإعدام عيد النصر، ولإعادة تمثال النصاب المحتال المنحط العالمي ديلسبس.. لمدخل القناة في بورسعيد؛ مدينة القتال والصمود والنصر، التي صارت جزءاً رئيسياً من ضمير حركة التحرر الوطني العالمية، وألهمت – بصمودها وقتال أهلها لقوات العدوان، وإيوائهم الفدائيين – شعوباً كثيرة في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية.. فتحية لبورسعيد ولشعبها، وللرجل الذي وقف على منبر الأزهر عام 1956، وأعلن أننا سنقاتل.. سنقاتل.. ولن نستسلم.
نقلاً عن «الأهرام»