مصطفى كامل السيد
تواضعت أحلامنا كثيراً، لم نعد نتطلع إلى الولوج إلى عصر انفجار المعرفة، الذي انتقلت له بعض شعوب العالم.. مع تسارع الثورة العلمية والتكنولوجية منذ النصف الثاني للقرن العشرين، بل أصبح المتابعون بإخلاص لأحوالنا، يتمنون أن نقترب من الدخول في عصر الحداثة.
طبعاً ستستغربون؛ ألسنا بالفعل مندمجين فيه، ونحن نتواصل مع العالم.. من خلال الهاتف المحمول، والشبكة العنقودية، ويستمتع بعضنا.. ليس فقط بقيادة السيارات، بل وامتلاك أحدثها. كما شيدت الحكومة عاصمة.. يُقال إنها عاصمة ذكية. بل – ومن المأمول – أن تكون معظم المدن الجديدة في مصر.. مدناً ذكية، تربطها – بل وتديرها – أحدث نظم الاتصالات. بل الأكثر من ذلك، لا تقتصر الحداثة في مصر على اقتناء منتجات التكنولوجيا الرقمية، بل إن مؤسسات الحكومة – من وزارات ومحاكم مدنية وأجهزة إدارة – هي من منتجات الحداثة في المجال الحكومي، كما أن وجود مؤسسة نيابية من مجلسين، مع عدد كبير من الأحزاب السياسية، واستخدامها الصحف والإذاعة والتلفزيون.. للتواصل مع المواطنين، هي كلها من مظاهر الحداثة. فكيف يستقيم كل ذلك.. مع الادعاء بأن المصريين لم يدخلوا بعد عالم الحداثة؟
ليس هناك تناقض بين الملاحظتين؛ فالحداثة ليست مجرد منتجاتها التكنولوجية والإدارية والسياسية، فلم تتقدم مسيرة الحداثة في المجتمعات التي شهدت بزوغها، بل وانتقلت فيها.. لما أصبح يُسمى بما بعد الحداثة؛ إلا لأنها استندت إلى بنية فكرية، وإطار من القيم؛ بنية فكرية تثق في قدرة البشر على فهم العالم.. باستخدام عقولهم، والتعامل معه.. على أساس المنهج العلمي، الذي يدعو له هذا العقل، وتطبيق هذا المنهج.. في النهوض بشؤون حياتهم. وإطار من القيم.. ينسجم مع هذه البنية الفكرية ويعززها.
ولذلك، فلا أمل لأي مجتمع.. في استكمال مسيرة الحداثة، إن لم يتسلح ببنيتها الفكرية، وإطارها القيمي.. على نحو ما ستستفيض فيه هذه المقالة.
وسأضرب مثلين.. على غياب البنية الفكرية، والإطار القيمي للحداثة؛ بكارثتين حدثتا أخيراً، أوضحتا هذا التناقض الصارخ.. بين منتجات الحداثة، وأساسها الفكري والقيمي.
المثل الأول يتعلق بحريق سنترال رمسيس.
أليس سنترال رمسيس – الذي تخرج منه شبكة الاتصالات الرقمية في مصر.. من هواتف ثابتة ونقالة، وخطوط المعلومات، ومخزن بيانات المصارف وشركات التأمين، بل وكل القطاعات الاقتصادية في مصر؛ هو التجسيد لأرقى مظاهر الحداثة التكنولوجية؟ ومع ذلك، اندلع فيه حريق.. لم يثبت أن معدات الحماية المدنية فيه – التي يُفترض أن تنطلق ذاتياً لمحاصرة أي حريق، قد جرى تشغيلها. فتوقفت – مع هذا الحريق – معظم الحياة الرقمية في مصر.
توقفت معظم الاتصالات بالهاتف الثابت والمحمول، وخدمات السيارات بالنداء الآلي، وشبكة الإنترنت، وأجهزة معلومات الطريق الجغرافية، وماكينات الصرف الآلي بالبنوك.
لماذا حدث ذلك؟ ولماذا تجدد الحريق؟
قال بعض الخبراء: إن مبنى سنترال رمسيس – من الناحية الإنشائية – لا يسمح باستخدام نظم الحماية المدنية على نحو مناسب.. بسبب قدم العهد به.
وقال آخرون: إن نتائج الحريق، تؤكد خطورة تركيز كل هذه الخدمات فيه.
والمثل الثاني هو حادث الطريق الإقليمي في محافظة المنوفية.
فقد راح ضحية ذلك الحادث المؤسف.. ثماني عشرة فتاة، وسائق الميكروباص؛ الذي كان يُقلهن لأماكن عملهن لجمع العنب، للحصول على دخل يمكنهن من مواصلة دراساتهن، أو مساعدة أسرهن.
وقيل عن هذا الطريق، إنه كان يجري إصلاحه – بعد ثماني سنوات من رصفه – لعيوب كبرى في التنفيذ، استدعت إغلاق اتجاه منه، وازدحام السيارات – بين الغادي والرائح – في النصف الآخر.. الذي كان يفترشه أيضاً باعة الرصيف.
هنا يبدو التناقض واضحاً.. بين منتج الحداثة؛ أنظمة الاتصال الرقمي، وطريق إقليمي.. يُقال إنه يُنفذ وفقاً لأحدث الاشتراطات الفنية. ومع ذلك، فمن الواضح أن المنهج العلمي لم يؤخذ به، لا في حشد كل هذه الأنظمة الرقمية.. في مبنى لا يسمح إنشائياً بتوافر معدات السلامة فيه. ولا في تشييد طريق.. تثبت أخطاء جوهرية فيه، بعد تسليمه للاستخدام.. وعلى الفور.
الذي يدعو للأسى فعلاً، أن الذي اتخذ القرار بأن يكون سنترال رمسيس.. هو مقر هذه الشبكة المركزية من الاتصالات، هو خبير في تكنولوجيا الاتصالات على أرفع مستوى، وهو – على الأرجح – حاصل على درجة الدكتوراه في تخصصه، وربما أيضاً.. من أرقى الجامعات الأجنبية.
وحتى لو كان هذا القرار.. قد اتُّخذ على مراحل، وساهم فيه كثيرون؛ فهم جميعاً.. من المتخصصين، ومن كبار الخبراء في هذا المجال.
ومع ذلك، لم يطرأ على بال أي منهم.. احتمال المخاطرة الكبرى، في حشد كل هذه الخدمات في هذا المبنى، دون الالتفات للتحذيرات من مغبة المركزية في هذا القطاع؛ التي يُقال إن مصدرها.. كان البنك الدولي.
نفس الأمر.. ينطبق على تشييد الطريق الإقليمي الأوسط – المار بمحافظة المنوفية – فلم يخطط لهذا الطريق، ولم يرسم تفاصيل تنفيذه.. واحد من خريجي المدارس الثانوية الصناعية، ولكنه – وأنا أفترض هنا، ولا تتوافر لديّ معلومات محددة – هو في الغالب من بين المهندسين.. الذين تعتمد عليهم الهيئة التي تقوم بتنفيذ شبكة الطرق الجديدة في مصر، وبالتعاون مع كُبريات شركات القطاع العام، وهم من بين المهندسين ذوي المؤهلات العالية في تخصصهم.
… ما هو السبب في أن الأسلوب العلمي.. لم يُراعَ في هاتين الحالتين؟ وفي حالات أخرى غيرها؟
هل يعود ذلك إلى أن الذين اتخذوا القرار، لم يكونوا فريقاً متعدد التخصصات، يأخذ في الاعتبار كل الجوانب الإنشائية والفنية واحتياطات السلامة وغيرها؟
هل اعتمد متخذو القرار.. على الاعتقاد بأن الأمور بيد الله، وأنه سيستر في النهاية؟
هل تخضع كل هذه الاعتبارات للمراجعة.. بين الحين والآخر؟ أم أن القرار الذي اتخذ منذ زمن.. غير قابل للمراجعة؟
هل يمكن التفكير في عقد اجتماعات.. لممثلي كل العاملين – من مهندسين وإداريين وعمال – لمناقشة دورية لقضايا إدارة هذا المرفق، يطرح فيها ممثلو كافة المشتغلين بالمبنى تصوراتهم بكيفية صيانته ورفع كفاءته؟ وهل ستكون خلاصة مثل هذه المشاورات – إن جرت – ضرورة تفكيك حزمة الخدمات.. التي يقدمها سنترال رمسيس، ونقلها لأماكن أخرى، لتوقي النتائج الضارة عند تكرار مثل هذا الحدث؟
لا يمكن بطبيعة الحال الإجابة عن أي من هذه الأسئلة.. لعدم توافر معلومات كافية، ولكن المرجو – بإثارة مثل هذه الأسئلة – هو أن تؤخذ في الاعتبار.. من جانب المسؤولين؛ كدروس مستفادة من هاتين الكارثتين.
الحداثة الشكلية في المجال الحكومي والسياسي
كما هو الحال – في امتلاك منتجات تكنولوجية.. مثل نظم الاتصال أو الطرق السريعة المحيطة بالمدن – في المجال الحكومي والسياسي، نقلنا المؤسسات.. دون اكتساب طريقة التفكير المقترنة بها، ولا القيم التي تعمل في ظلها. وأضرب المثل بثلاث مؤسسات.. نقلنا اسمها ولكن دون أن تتغير طريقة تفكيرنا بشأنها، ولم نكتسب القيم الضرورية لتفعيلها. هذه المؤسسات ترمز لها مفاهيم قمنا بتأويلها.. على عكس المقصود منها تماماً؛ أهمها مفاهيم الوطنية، والدستور، والانتخاب.
… القائمة الوطنية في الانتخابات، هي القائمة التي تتصدرها أحزاب الموالاة.
والانتخابات – مع نظام القائمة الحزبية المغلقة والمطلقة – تُلغي حرية الاختيار بين الناخبين، وتهدر قرابة نصف الأصوات.. التي لم تنتخب هذه القائمة، بل ولا تشجع أصلاً.. على الذهاب لصناديق الاقتراع؛ لأن نتيجة الانتخابات معروفة سلفاً.
كيف تكتسب البنية الفكرية للحداثة وإطارها القيمي؟
دور المؤسسة التعليمية.. أساسي، في كسب طريقة التفكير العلمي، والقيم الأساسية للحداثة.
تلك القيم، التي حددها عالم السياسة الأمريكي أليكس إنكليس، هي:
- الانفتاح على تجارب جديدة مع البشر، وأنماط جديدة من السلوك.
- تأكيد الاستقلال الذاتي في مواجهة السلطة والمؤسسات التقليدية.
- الاعتقاد في فعالية العلم والطب الحديث.
- امتلاك الطموح بالنسبة للذات وأفراد الأسرة بأن يترقوا في الحياة.
- الحرص على الوقت والتخطيط المسبق لما يريد الفرد القيام به.
- الاهتمام بالشأن العام والمشاركة في أنشطة اجتماعية ومحلية.
- المتابعة لأنباء الوطن والعالم بأكثر من الاهتمام بالرياضة أو الدين أو الشؤون المحلية.
وتُعلي دراسات علم الاجتماع والسياسة من شأن الدور.. الذي تقوم به المؤسسات الحديثة الأخرى في بث هذه القيم، ومنها المؤسسات الاقتصادية والحكومية. ولكن مشكلتنا في مصر أن هذه المؤسسات إما غائبة أو هي نفسها تسودها القيم التقليدية.
ظروف الغالبية الساحقة، من المدارس الحكومية في مصر لا تجعلها وسيطاً لنقل الفكر العلمي أو قيم الحداثة؛ إما لاكتظاظ الفصول، أو لاعتماد الطلاب على مراكز خصوصية، وتوقفهم عن الذهاب للمدرسة فترة طويلة قبل الامتحان، أو أن طرق التعليم والمناهج – ذاتها – لا تشجع على الفكر النقدي، وقيم المجتمع التي أصبحت تبارك الغش.. لا تشجع الطلاب على الاهتمام بتحصيل العلم. كما أن تردي أحوال العاملين في الحكومة، يفتح الباب أمام ممارسات الرشوة والواسطة، ويقلل الاهتمام بأن يكون الاجتهاد في أداء الواجب هو الطريق للترقي.
وأخيراً، فإن كبرى الشركات الخاصة في مصر.. هي ملكية عائلية، وهي – على أي حال – لا تشغل إلا نسبة محدودة من الأيدي العاملة. وهكذا، فإننا – على الرغم من امتلاكنا لمنتجات الحداثة التكنولوجية والإدارية – للأسف الشديد.. بعيدون عن امتلاك أسسها الفكرية والقيمية.
وعندما نمتلك هذه الأسس، سيصبح تكرار أمثال.. كارثة سنترال رمسيس، وكفر السنابسة.. أقل احتمالاً.
نقلاً عن «الشروق»