د. أحمد يوسف أحمد
لا يُظْهِر المأزق الحالي للسياسة الإسرائيلية.. أكثر من خطابها السياسي، في مواجهة الزخم الهائل الذي حظي به حل الدولتين في الشهور الأخيرة، والذي كان محصلة لعاملين؛ أولهما: تصاعد جرائم الحرب الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني في غزة والضفة.. على نحو غير مسبوق منذ عملية المقاومة في السابع من أكتوبر 2023. والثاني: المبادرة الدبلوماسية السعودية – بالتعاون مع فرنسا – من أجل تجسيد حل الدولتين على أرض الواقع.. التي مرت بأكثر من مرحلة، إلى أن بلغت ذروتها بانعقاد المؤتمر الدولي بهذا الخصوص يوم الاثنين الماضي، الذي شهد اعتراف مزيد من الدول بدولة فلسطين، وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا وأستراليا وكندا والبرتغال، حتى بات تفوق الدولة الفلسطينية على إسرائيل – من حيث عدد المعترفين بها – مسألة وقت؛ حيث يبلغ عدد الدول المعترفة بإسرائيل 165 دولة، بينما يقترب عدد الدول المعترفة بدولة فلسطين من هذا الرقم.. بعد تسونامي الاعترافات الأخير، المقدَّر له أن يستمر.
وكان آخر إحصاء لعدد الدول المعترفة بفلسطين، قد أشار إلى أنه قد بلغ 159 دولة، وفي مواجهة هذه التطورات – التي تدَّعي إسرائيل أنها بلا أدنى أهمية – بلور نيتانياهو وأركان حكومته المتطرفة.. خطاباً سياسياً بائساً غبياً، يستعرض التحليل التالي أهم أركانه؛ وكلها تُظْهِر عمق الأزمة التي تمر بها إسرائيل في الآونة الحالية. والحقيقة أن هذه الأزمة، لا تظهر فحسب في بؤس الخطاب السياسي الإسرائيلي الرسمي وغبائه، وإنما في الحالة المزرية المضحكة.. التي يظهر عليها المحللون والمعلقون الإسرائيليون المتطرفون، وهم يراوغون في إجاباتهم عن الأسئلة المحرجة، ويتحدثون أصلاً في موضوعات لا تمت بصلة لها.. تفادياً للحرج، ولا يتورعون عن الكذب البواح.. بذكر مغالطات تاريخية لا تنطلي على أحد، ويركز التحليل التالي على ثلاثة أركان للخطاب الإسرائيلي المتعلق بحل الدولتين.
الركن الأول في هذا الخطاب الإسرائيلي، هو الرفض القاطع لهذا الحل، ومعروف أن هذا الرفض.. سياسة إسرائيلية ثابتة، وإن لم تكن صريحة بالضرورة في كثير من الأحيان، غير أنها في ظل الحكومة المتطرفة الحالية – وبالذات بعد تصاعد الدعوة لحل الدولتين وتأييده – لم تعد تتردد في إظهار رفضها القاطع له، بل إن رئيسها.. بات يتباهى بدوره في إجهاض جميع ؟محاولات تجسيد هذا الحل على أرض الواقع. فماذا ننتظر من شخص يحاول ارتداء ثوب صاحب المهمة الدينية التاريخية.. المتمثلة في إنشاء إسرائيل الكبرى، التي ستضم دولاً وأجزاء من دول عربية عديدة؟ ويُظْهِر هذا الموقف مدى استخفاف إسرائيل بالشرعية الدولية؛ حيث إن تأسيس الدولة الفلسطينية، يستند إلى ذات الأساس القانوني.. الذي استند إليه إنشاء إسرائيل، وهو قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين 1947، وإن تميزت الدولة الفلسطينية.. بصدور قرار مجلس الأمن 1515 لعام 2003، الذي دعا بالإجماع.. لإنشاء دولة فلسطينية بحلول عام 2005، ناهيك بالأغلبية الهائلة.. التي وافقت بها الجمعية العامة مؤخراً على «إعلان نيويورك» الحاسم.. بشأن حل الدولتين.
أما الركن الثاني للخطاب الإسرائيلي، فقد واجَهْتُ مشقة في إيجاد الوصف الدقيق له، وانتهيت إلى أن الوصف الأنسب.. قد يكون الاستخفاف بالعقول، وهو ذلك الركن الذي يولول فيه نتنياهو ومساعدوه المتطرفون، وترامب وفريقه.. ومن على شاكلتهم، بنغمة نشاز، مفادها أن حل الدولتين مكافأة للإرهاب، ولحماس تحديداً.. على ما يسميه بجريمة 7 أكتوبر، وكأن حل الدولتين هذا قد اختُرِع بعد 7 أكتوبر. وأُذَكر نتنياهو بأن دولة فلسطين قد أُعلنت للمرة الأولى.. في نوفمبر 1988، وقبل نهاية العام كانت 78 دولة قد اعترفت بها، فأين كان الإرهاب آنذاك؟ أم أنه تعد انتفاضة الحجارة بدورها – التي تفجرت في ديسمبر 1987، وهيأت المناخ لإعلان الدولة.. عملاً من أعمال الإرهاب؟ علماً بأن عدد الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية – قبل 7 أكتوبر 2023 – بلغ 137 دولة، فأي إرهاب كانت هذه الدول تكافئه يا ترى آنذاك؟ غير أن الأهم من هذا كله، أن الزخم الخاص بحل الدولتين قد ارتبط حصراً بموقف معادٍ لحماس، فقد اشترط معظم المعترفين الجدد.. ألا يكون لحماس أي دور في الدولة الناشئة، فعن أي مكافأة لحماس يتحدث نتنياهو.. متصوراً أنه يخاطب مجموعة من الجاهلين أو الأغبياء.
ولا يقل الركن الثالث في الخطاب الإسرائيلي.. استخفافاً بالعقول، عن الركن السابق. وفي هذا الركن يدَّعي نتنياهو أن الدولة الفلسطينية.. سوف تشكل خطراً وجودياً على إسرائيل! وأنها لن تكون دولة تعيش جنباً إلى جنب معها، وإنما بديلاً لها، وهو يفترض بهذا.. أن مستمعيه من الأغبياء أو الجهلة، بحيث يصدقون أن دولة سيتم وضع مواصفاتها بحرص شديد، وبالذات من منظور قوتها العسكرية، والقيود التي ترد على استخدامها، يمكن أن تكون تهديداً لدولة نووية.. يُصَنَّف جيشها أحياناً بأنه رابع أقوى جيش في العالم. والواقع أن معضلة الدولة الفلسطينية.. لن تتمثل في تهديدها الوجودي لإسرائيل، وإنما في حاجتها الملحة لضمانات أمنية أكيدة، تؤمنها ضد العدوانية الإسرائيلية المجنونة.
يقلل البعض – وعلى رأسهم نتنياهو ومن معه – من جدوى تصاعد زخم الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية، ويذهبون إلى أنه لن يفضي إلى أي نتائج عملية، ويؤكد نتنياهو وغلاة المتطرفين الصهاينة.. أنه لن تكون هناك دولة فلسطينية أبداً. وعلى الرغم من أن نشأة الدولة الفلسطينية المأمولة، ستكون عملية معقدة تاريخياً، فإنه يطيب لي.. أن أُذَكر نتنياهو بواحد من أمثاله؛ هو إيان سميث رئيس وزراء النظام العنصري في روديسيا الجنوبية (زيمبابوي الحالية)، الذي أعلن يوماً ما، أنه لن يكون هناك حكم للأغلبية السوداء في حياته، ولا في حياة أولاده ولا أحفاده، فإذا بهذا الحكم يتحقق.. قبل أن يرتد إليه طرفه؛ بمنظور التاريخ، الذي لم يعرف سوى انتصار الشعوب.. في معارك استرداد حريتها.
نقلاً عن «الأهرام»