د. أحمد يوسف أحمد
أعلن الرئيس الفرنسي.. الخميس الماضي، نية الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وحدَّد سبتمبر المقبل موعداً لإعلان هذا الاعتراف.. في الدورة القادمة للجمعية العامة للأمم المتحدة، ولحقه أمس الأول.. رئيس الوزراء البريطاني، بتهديد بالاعتراف في نفس التوقيت؛ ما لم توقف إسرائيل حربها على غزة. ومن ناحية أخرى، دعا المؤتمر الدولي بنيويورك لتنفيذ حل الدولتين – أمس الأول أيضاً – لتأييد وثيقته الختامية الرامية لتطبيق حل الدولتين، وهكذا يبدو واضحاً.. تصاعد الدعم الدولي لهذا الحل؛ وهو تطور مفهوم.. سواء بالنظر لعدالة القضية الفلسطينية، أو بسبب جرائم الحرب الإسرائيلية غير المسبوقة.. بحق الشعب الفلسطيني، التي أحدثت تحولات حقيقية في الرأي العام الدولي، وبالذات في أوروبا الغربية.. بل والولايات المتحدة.
والمنطقي أن تُفضي هذه التطورات.. إلى زيادة الضغوط على إسرائيل، وهي ضغوط يأمل البعض أن تنتهي.. بتجسيد حلم الدولة الفلسطينية، وهو ما يفسر العصبية التقليدية التي تواجه بها إسرائيل هذه التطورات؛ فعلى الفور صرح نتنياهو – كرد فعل على إعلان ماكرون.. نية الاعتراف بالدولة الفلسطينية – بأن هذه الخطوة.. تمثل «جائزة للإرهاب»، وتُعد مقدمة لظهور وكيل جديد لإيران في المنطقة، واعتبر الدولة الفلسطينية بديلاً لإسرائيل، وليست دولة سوف تعيش إلى جوارها؛ في تلميح إلى أن تأسيس دولة فلسطينية.. سوف يكون «مقدمة للقضاء على دولة إسرائيل». وحذر وزير خارجيته من أن الدولة الفلسطينية، سوف تخضع لحكم حماس.. كما حدث بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة في 2005.
وكالعادة، توافقت الإدارة الأمريكية مع الموقف الإسرائيلي، فوصف وزير الخارجية الأمريكي القرار الفرنسي بـ «المتهور»، وأضاف رئيسه أنه قرار لا وزن له.
والحقيقة أنه قد آن الأوان، لفضح هذا الاستخفاف بالعقول، وهو أقل وصف ممكن للتصريحات الإسرائيلية والأمريكية الدائمة.. بشأن هذا الموضوع. فمن يقرأ تصريحات نتنياهو ووزير خارجيته، يتخيل أن هذه الدولة الفلسطينية ستُعلن بلا ضوابط، بحيث تمثل خطراً وجودياً على دولة إسرائيل، لا سيما وأن حماس – التي (حسب زعمهم) ستعمل وكيلة لإيران! سوف تحكمها، ويصل استخفاف نتنياهو بالعقول.. إلى درجة الادعاء بأنها لن تكون دولة بجوار إسرائيل، وإنما بديلاً لها، أي أنها ستكون مقدمة للقضاء عليها؛ بينما واقع الأمر.. وألف باء تجسيد الدولة الفلسطينية، يشير إلى أنه ستكون عملية محكومة بأقصى الضوابط الممكنة، بحيث تخرج هذه الدولة.. بلا قوة مسلحة يمكن أن تمثل تهديداً لأحد، وأقصى ما سيتوافر لها.. هو قوة لحفظ الأمن الداخلي؛ بحيث يكون الخطر على الدولة الفلسطينية وليس على إسرائيل. ويكون المطلوب – فلسطينياً وعربياً – هو ضمانات أمنية دولية حقيقية.. للدولة الفلسطينية، خاصة بالنظر إلى العربدة التي تمارسها إسرائيل حالياً.. في لبنان وسوريا، والبقية تأتي؛ انطلاقاً من عقيدة أمنية توسعية؛ تعطي إسرائيل لنفسها بموجبها، صفة الخصم والحكم معاً، فتقرر أن وضعاً ما في دولة ما.. يهدد أمنها، وتقوم بنفسها باستئصال هذا التهديد؛ كما فعلت في لبنان واليمن وإيران.
وعند هذا الحد، يمكن أن يكون ثمة منطق فيما تفعله – بغض النظر عن رفضنا له – على أساس أن هذه الدول كانت مصدراً لأعمال مقاومة للكيان الإسرائيلي، فماذا عن الحكم الجديد في سوريا.. الذي لم يدع مجالاً لشك في نواياه السلمية تجاه إسرائيل؟ وكان جزاؤه احتلال مزيد من أراضي سوريا، وتدمير جيشها، والتدخل في شؤونها الداخلية. والمعنى أن محاولة إيهام العالم بأن ثمة غولاً سيظهر بجوار إسرائيل، ويهدد أمنها.. بل وجودها، هو قمة الاستخفاف بالعقول؛ فالدولة الفلسطينية الوليدة.. هي التي ستكون في أمس الحاجة إلى ضمانات أمنية دولية حقيقية، تحميها من العربدة الإسرائيلية.
أما الحديث عن سيطرة حماس عليها، فهو نوع آخر من الهراء؛ فماذا سوف تفعل حماس أو غيرها.. في دولة سوف تؤسس على مجموعة من الضوابط الصارمة، وتُحاط بسلسلة من القيود المحكمة، ويكون كل المطلوب فيها.. أن تُترك للشعب الفلسطيني الصامد، فرصة الحياة الكريمة، وبناء مستقبله.. على ما تبقى من أرضه؛ في مأمن من اعتداءات من استولى على معظمها.
ويجب أن يكون واضحاً تماماً، أن كل التصريحات الفارغة من نتنياهو ومساعديه وحلفائه.. ليست سوى محاولة للالتفاف على حقيقة مؤكدة، وهي أن إسرائيل ترفض أصلاً.. فكرة حل الدولتين؛ لأنها تتناقض مع حلم إسرائيل الكبرى.. التي تسيطر على الشرق الأوسط برمته. ومن الضروري التأكيد على أن هذا الحلم، لا يخص نتنياهو وائتلافه الحكومي المتطرف وحدهم؛ وإنما هو يعبر عن توجه مجتمعي عام في إسرائيل. ومن لديه أدنى شك في هذه الحقيقة، فليراجع نتائج تصويت الكنيست منذ أسبوع.. على إعلان يدعو الحكومة إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية؛ بأغلبية 71 صوتاً، ضد 13 (هم حصراً نواب فلسطينيي 1948 ولهم 10 مقاعد و3 نواب من حزب العمل)، فيما تغيب 36 عضواً.
ولا ننسى بطبيعة الحال تصويت الكنيست العام الماضي، على رفض قيام دولة فلسطينية بأغلبية 68 صوتاً ضد 9 (هم كل نواب فلسطينيي 1948، عدا نائباً واحداً.. تغيب ضمن الـ43 عضواً المتغيبين)؛ أي أن رفض الدولة الفلسطينية، وقرار ضم الضفة لإسرائيل.. يمثلان الاتجاه العام داخل إسرائيل، وليس نتنياهو وحكومته فحسب.
وحتى لو تصورنا جدلاً.. أن ائتلاف نتنياهو سيسقط في الانتخابات القادمة، وحل محله ائتلاف آخر.. يقبل بهذا الحل، فكيف تنشأ الدولة الفلسطينية.. في ظل تغول الاستيطان، وتوحش المستوطنين في الضفة؟ وهو ما دفع رجلاً بوزن جوتيريش – الأمين العام للأمم المتحدة – للتصريح.. في افتتاح مؤتمر حل الدولتين، بأن «هذا الحل أصبح أبعد من أي وقت مضى»، ولذلك فإنه مع كل التقدير للجهود المخلصة.. التي تُبذل لتجسيد حل الدولتين، يجب ألا يغيب عن أذهاننا.. أن إسرائيل رافضة له من حيث المبدأ، وأن خبرة الصراع – قرابة ثمانية عقود – تؤكد أنها لا تفهم إلا لغة القوة.
نقلاً عن «الأهرام»