عادل نعمان
من حكمة الله البالغة في عباداته ومناسكه وشعائره.. ألا تمثل عبئاً أو إرهاقاً مادياً على عباده، أو حملاً لا يقدرون عليه، أو إنهاكاً لصحتهم أو استنزافاً واستهلاكاً لمواردهم وما يملكون، وإلا فإن السباق يكون محسوماً لصالح الأغنياء، على حساب الفقراء، ومن ثم يشعرون بالتقصير؛ فهم شح فيما يقدمونه في حق المضيف، وليست حكمة الله كذلك، فإن الحب لله غنى في مشاعره، كريم في عواطفه، لا يقاس بما يحمل من مال وثروة، فلربما يُقبل الله مهرولاً على عبد يسعى على قدمين.. لا يحمل زاداً أو طعاماً، على من سعى إليه حاجاً من قصر إلى طائرة، يتناول طعامه في سهولة ويسر.. في فنادق النجوم الخمسة العامرة، فإن الحب لا زاد له إلا الحب، ولا عبادة يحيطها الشقاء، ولا شعيرة تشق على الناس وتربط عليها البطون، وتؤجَّل فيها النفقات، ويقتِّر الناس فيها على أنفسهم وفي طعامهم وملبسهم وتعليمهم، ويمسكون على أنفسهم ويربطون عليها.
إذا كان الحج – كما فرضه الله – شعيرة لمرة واحدة، (الرسول حج مرة واحدة فقط) فلماذا الإسراف في تكراره؟ حتى لو كان هذا القرار حراً على المستوى الشخصي، إلا أنه من الحكمة أن يقيَّد على المستوى العام، فلا فرق بين أموال الوطن والمواطن، ولما كان الحج لمن استطاع إليه سبيلاً – وهي القدرة المالية والصحية، وما يزيد عن الدين – وأكد علماؤهم على هذا (فلا يجوز الحج لمدين بدين، أو وجبت عليه نفقة شرعية.. من مأكل وملبس وتعليم أو زواج أبناء، أو حوائج أصلية من مسكن وزكاة أو نذور أو ضرائب)، ومن الطبيعي ألا يكون بالتقسيط أو الاقتراض من البنوك، فهذا تجاوز حد الاستطاعة والقدرة، ولا أدري كيف يسقط الحج عن المدين لعدم القدرة ثم نقبل الحج بالتقسيط؟ أوليس القسط ديناً وعدم استطاعة في نفس الوقت؟ وكذلك فإن للصائم رخصة قد منحها الله له إلا أنه يتجاوزها، فلو كان مسافراً أو مريضاً، أو من أصحاب الأمراض المزمنة التي تتأثر بالصوم، وكذلك كبير السن الذي يخاف على نفسه الهلاك، حتى أصحاب المهن والحرف.. التي لا يقدر أصحابها على الصوم، فإن الله قد أعطى لكل هؤلاء تصريحاً بعدم الصوم، إلا أننا نلاحظ تشديداً وتعسيراً دائماً على النفس، ومبالغة في التزام غير مطلوب، ومعاناة للصائم وإرهاقاً ليس لله فيه حاجة أو نصيب.
تعال إلى الصورة الأكثر إسرافاً لموارد الدولة، وهي الإفراط في الأضاحي.. الذي تُستهلك وتُستنزف فيه الثروة الحيوانية، حتى وصل الأمر فيه للبله والسفه، وأفرط الجميع، دولة وأغنياء وفقراء، فتركت الدولة الحبل على الغارب، وتنافس الأغنياء في عدد الأضاحي، وباعها الفقراء إلى مطاعم الكفتة والكباب ليتناولها الأغنياء في المساء.
تعال إلى منهجها: في هذا يقول البيهقي: قال الشافعي رحمه الله: وبلغنا أن أبي بكر الصديق وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحيان، كراهية أن يُقتدي بهما، فيُظن من رآهما أنها واجبة، والتضحية سنة غير واجبة، وخشى الصديق ثم الفاروق إن ضحيا – وهما إماما المسلمين – أن يظن الناس أنها واجبة، إضافة إلى أنهما يحجان بالناس في الموسم، والحاج قد يكتفي بالهدي، وما أظن أننا مارسنا هذه الشعيرة على هذا النحو من الإسراف والعبث إلا من عهد قريب، حين كان القادر فقط من أهالي القرى والحضر يقيم الشعيرة، ولم يكن يشعر الناس حيال ذلك بالتقصير أو الإهمال، بل كانت الدنيا تسير سيرتها الهادئة السهلة.. دون تنافس أو مبارزة، حتى وصلنا إلى ما نحن فيه من بذخ وإسراف، وأصبحت الأضاحي والحج بالتقسيط المريح مخالفين القدرة والاستطاعة.
حسناً، فعل ملك المغرب حين قام بالأضحية عن نفسه ونيابة عن شعبه كما فعلها النبي، فقد ضحى بكبشين، «أحدهما عنه وعن أهل بيته، والآخر عنه وعمن لم يُضحِّ من أمته»، فذهب جمهور العلماء إلى أنها سنة مؤكدة يؤجر فاعلها ولا يأثم تاركها حتى لو كان قادراً عليها!
ليست الأحكام تُبنى على الروايات التاريخية حتى لو كانت عن الأنبياء أو حتى سيدنا إبراهيم حين افتدى الله إسماعيل بذبح عظيم، فإن التشريعات لا تؤخذ من القصص القرآني عن الأنبياء، ولكن تؤخذ من أوامر واضحة من القرآن مباشرة. والهدي قد اختلط عند العوام بالأضحية، وهو منسك من مناسك أو ركن أو خطوة عند أداء فريضة الحج، فالحج هو طواف، وسعي بين الصفا والمروة، ووقوف بعرفة، وذكر لله عند المشعر الحرام، و(هدي)، وطواف الإفاضة، وحلق وتقصير للشعر، والهدي في الحج أمر يختلف عن الأضحية، والهدي واجب على الحاج بشروط، أما الأضحية فهي كما ذكرنا سابقاً، وإذا كان في الأمر بد، فلماذا لا ينظر أمر الأضحية بالدواجن والطيور، كما أشار إلى هذا الدكتور سعد الهلالي، أليس الرجل أزهرياً وأستاذاً في الفقه المقارن؟ وكذلك دراسة ما تقدَّم به ملك المغرب ولا أتصور أنه قد قام بهذا العمل إلا بالرجوع لذوي الشأن.
وما نرجوه هو رفع العبء عن الناس، وتخفيف الأحمال عن الوطن المنهك في تدبير أموال الحج والأضاحي.
«الدولة المدنية هي الحل»
نقلاً عن «المصري اليوم»