مصطفى حجازي
كان المقال الأول في خماسية حكايا القرن عن سوريا، التي كانت لأبنائها ويلاً لا ملاذاً. سوريا.. التجسيد الأكثر إيلاماً لانهيار الدولة؛ حيث تماهت السلطة في الاستبداد، وتحولت المؤسسات إلى أدوات قمع عار، وصارت «الدولة» ذاتها سلاحاً ضد المجتمع. ولتُختزل من دولة إلى مساحة جغرافية.. متنازع عليها، ومن مجتمع حي.. إلى شراذم شتات منفى أو شتات حصار، ومن حلم قومي.. إلى كابوس مستمر؛ ذات معزولة، لا تنتج إلا الألم!
وقلنا إنه بين السين والكاف.. يأتي البون الشاسع في حياة أمة أخرى، فمن «سوريا» المبتلاة بعروبة عقلها السياسي.. إلى «كوريا» الجنوبية، التي قدمت نموذجاً معجزاً في التنمية؛ انتصرت فيه الإرادة على الجغرافيا. أمة قامت من بين الركام في ذات الخمسين سنة. وفي ذلك حكايا مقالنا.
لم تكن كوريا الجنوبية بدعاً من الأمم في حال نهضتها. ولم يكن مسيرها.. من التخلف للتقدم طوباوياً. بل كان مسيراً إنسانياً به من العنت والتظالم ما به. ولكنه كان مسيراً يؤمه العلم والعقل، ولذا أفلح السعي. في أقصى شرق آسيا، بين جارين عملاقين – الصين واليابان – ومع نصف وطن محتل، ومعزول خلف الأسلاك الشائكة، تبدو معجزة كوريا الجنوبية.. التي لم تكتفِ بمحاولة البقاء، بل صعدت إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة.. خلال نصف قرن فقط – من التحول العميق الذي تجاوز الوثبات الاقتصادية – إلى إعادة بناء أمة ودولة ومجتمع، وخلق حلم وطني.. لكامل أبنائها، قبل استنهاض وبناء إرادتهم الجماعية.
خرجت كوريا الجنوبية من الحرب الكورية (1950- 1953).. دولة مهشمة، تتلمس فتات قوتها من المعونة الخارجية، وترزح في ظل أنظمة عسكرية متعاقبة. لكنها انخرطت في مشروع وطني.. لم يكن دعائياً ولا سلطوياً، ولا عفو الخاطر. بل كان مشروعاً تراكمت فيه عناصر عدة؛ قيادة مركزية تنموية.. وإن شابها الاستبداد باسم الحزم. طبقة وسطى صاعدة. وتعليم صارم.. جعل الإنسان هو المورد الوحيد، الذي يمكن التعويل عليه.. في ظل فقر الموارد الطبيعية. فإن رزحت كوريا – في سبعينيات القرن الماضي – تحت حكم عسكري بقيادة الجنرال «بارك تشونغ هي».. الذي قاد مشروعاً تنموياً، فرض فيه الانضباط بالقوة في أوله، ثم انزلق به إلى منزلق استبدادي أودى بشخصه، إلا أن أثر ريادة العلم، وتواضع الجنرال لتلك الريادة.. حد من مثالب استبداده.
وجاء ذلك بيناً.. حين وجه الدولة نحو الاستثمار في التعليم، ثم التصنيع الكثيف. ولئن ضيق على السياسة بالمعنى التقليدي، إلا أن وضوحاً في الرؤية، ومنطقية الأولويات قد شفع إلى حين؛ حيث إن العقيدة التي اعتمدتها كوريا – في نهضتها – كانت «أن نهوض الدولة، لا يتم إلا عبر بناء الإنسان.. قبل البنية الصناعية أو الاستثمارية نفسها». ولئن بدا النموذج الكوري قاسياً في بعض أدواته، إلا أن الحلم الوطني كانت له الولاية.. على الحلم الذاتي للزعيم. لذا، نجح في وضع الأمة على طريق التقدم الحضاري. غير أن القمع السياسي، والتفاوت الاجتماعي.. تركا ندوبهما على وجه الأمة مع بداية الثمانينيات، ليكونا جذوة تصحيح مسار المشروع الوطني، وضمان عدم مصادرته في أوهام الزعامة.
المفارقة الكورية، أن الدولة الاستبدادية كانت حاضنة لبذور التحول الديمقراطي؛ فمع توسع الطبقة المتعلمة، وظهور أجيال جديدة.. ترفض عدم منطقية قبضة السلطة، شهدت البلاد انتفاضات شعبية متكررة، مهدت الطريق لإرساء ديمقراطية تعددية في التسعينيات. ولتبدأ كوريا لحظة تأسيس حقيقية، أتت من ثمر أجيال وعت، وتعلمت.. فقادت نهضة بلادها بأيديها، لا بيد جلاديها. عام 1987، خرجت الجماهير إلى الشوارع، تطالب بالحرية والكرامة.. كانت الانتفاضة الكبرى لحظة تأسيس جديدة؛ حيث أقر أول انتخابات رئاسية حرة، وبدأ بناء المؤسسات الدستورية. لم يكن التحول ديمقراطياً بالكامل.. منذ اللحظة الأولى، لكنه بدأ كمسار تدريجي، أكد أن الشعب الكوري لا يقبل التضحية بالحريات.. إلى ما لا نهاية، وأن التنمية لا تكمل مشروعها.. دون عدالة سياسية.
لم تكن التنمية الكورية مجرد صناعة أو صادرات، بل إعادة صياغة لمجتمع.. حول قيم الانضباط، والتعليم، والعمل الجماعي. ورغم أن هذا النموذج تعرض لاحقاً للنقد – بسبب ضغوطه النفسية والفردية، وتركّز السلطة الاقتصادية في أيدي مجموعات احتكارية – إلا أنه يظل أحد أنجح مشاريع النهوض الوطني في العصر الحديث. في التجربة الكورية، تتقدم الدولة ببطء – لكنها بثبات – نحو المستقبل؛ لا عبر قفزات شعبوية، ولا عبر تحالفات ريعية؛ بل عبر الاستجابة الحذرة للضغوط الشعبية، والرهان طويل الأمد على الإنسان. وليجنِ المواطن الكوري ثمار رشد الحكم – رؤية وأولويات وممارسة – دولةً نجت من الحرب والاستبداد، ومجتمعاً يؤمن بالإبداع؛ يحتفي به ويرعاه، ويذود عنه كل كارهي الإنسانية.. باسم سرديات الاصطفاف والنقاء الوطني – كحال أختها الشمالية – حتى غدت منارة آسيوية في التكنولوجيا، ومنارة إنسانية في الفنون والديمقراطية.
لا تختلف فطرة الشعوب، وليس لها أن تختلف.. فالتوق للحرية واحد.. والأمل في العدل واحد.. واستصراخ الكرامة وعزة القدر واحد.. في كل شعوب الأرض؛ مهما تفاوت صبرها على المكاره، وتحملها للأذى، وتساميها على ظلم من ظلم.
ولكن الفارق بين دولة وثبت.. كـ«كوريا الجنوبية»، ودولة تحللت بالمهانة والضعف.. كـ«سوريا»، هو الفارق بين دولة أرادت مواطنها «إنساناً»؛ هو مستودع حلمها، ومنطلق ترقِّيها، وضمانة منعتها. ودولة أرادت مواطنها «رعية سائمة» خانعة، لا حق له في حلم، ولا شراكة في ترق، ولا ائتمان على منعة.
فكروا تصحوا..
نقلاً عن «المصري اليوم»