Times of Egypt

حكايا من حافة القرن (1-5) سوريا.. حين تلتهم الدولة شعبها

M.Adam
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي 

نحن على حافة القرن الواحد والعشرين، والألفية الثالثة للميلاد.. وفي خضمِّ خمسين عاماً من التحولات الفكرية العاصفة؛ من انهيار الأيديولوجيا.. إلى صعود العولمة، ومن آمال الشعوب وثوراتها.. إلى انتحار المعاني أو الفسق بها. ولكن الأسئلة الكبرى حول الدولة والمجتمع، والسلطة والحرية، والتنمية والعدل، بقيت معلقة بأشكال شتى عبر خرائط العالم.

لا تختلف فطرة الشعوب، وليس لها أن تختلف؛ فالتوق للحرية واحد. والأمل في العدل واحد. واستصراخ الكرامة وعزة القدر واحد.. في كل شعوب الأرض؛ مهما تفاوت صبرها على المكاره وتحملها للأذى وتساميها على ظلم من ظلم.

ولكن على نحو ما تتعامل الشعوب مع أقدارها.. من فقر أو استبداد أو تخلف، يأتي عدل المآل بينها.. في تفاوت المصائر. فكل شعب يُفضي إلى ما يقدم من عمل.

في خمس حكايا من حافة القرن.. لخمسة شعوب وخمس.. دول من قارات الدنيا؛ دولة ثبتت. وأخرى ارتقت. وثالثة نضجت ثم انتكست. ورابعة تراوح بين الوعد والعجز. وخامسة انهارت. نحاول أن نقرأ تلك المعاني الكبرى.. لقضاء الشعوب في أقدارها، وكيف كان لهذا مآله.

حينما قال جاك ماليه دوبان «إن الثورات تلتهم أبناءها» – في حق فوضى الثورات، وتغلب الانتقام على العقل فيها – لم يكن يعرف أن ما قد يسمى دولاً.. وجدت لرعاية مواطنيها، ستكون أكثر قسوة ودموية ووحشية.. من الثورات وبركانها!

لا يصح هذا القول في شأن دولة، بأكثر مما يصح في شأن سوريا، حين صارت التجسيد الأكثر إيلاماً لانهيار الدولة الحديثة، بعد أن تماهت السلطة في الاستبداد، وتحولت مؤسسات الدولة إلى أدوات قمع عارٍ، حتى باتت «الدولة» ذاتها.. سلاحاً ضد المجتمع.

عاشت سوريا – منذ استقلالها – دوراً معقداً في تشكيل الهوية القومية العربية، لكنها وقعت تدريجياً في قبضة الانقلابات العسكرية، ثم النظام الأمني البعثي، الذي جعل الولاء للنظام.. أعلى من الولاء للدولة، وأعلى بكثير من الولاء للشعب. هكذا نشأ كيان سياسي قادر على الاستمرار، لكنه غير قادر على النضج أو التجدد. وعلى مر العقود، تكون نظام يحيا على الخوف، ويعيد إنتاج العجز، ويقمع كل أشكال الحياة المستقلة.

في أكثر منعطفات التاريخ السوري المعاصر حدة، تنهار الوحدة المصرية-السورية الوليدة..

وفي ذات المنعطف، تتقاذف سوريا أنواء الانقلابات؛ بدءاً بانقلاب «النحلاوي» الأول، وانتهاء بانقلابات ضباط القاع.. من البعثيين؛ كأمثال «صلاح جديد» و«حافظ الأسد» و«محمد عمران».. التي أتت بموجة حقد عاتية، يختطف على إثرها الأسد سوريا.. بعد أن نكل برفقاء سلاحه.

تخرج سوريا صفر اليدين.. من حرب أكتوبر 1973، بشبه هزيمة.. يتماهى حافظ الأسد في النصر المصري الحاسم ويتدثر به.

ولم تكن لتلك الفرية أن تصمد، لولا اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية بعدها بشهور.. لتعطي لنظام الأسد شرعية اللاعب الإقليمي؛ يتبدى تهافت دوره وإجرامه في الساحة اللبنانية، يقترب من انكشاف. فتقوم ثورة الملالي في إيران، ويدعمها الأسد.. فيصبح بدعمها رقماً عصياً في الإقليم. يعادي مصر في سلامها.. فيصبح رقماً عربياً ثقيلاً عصياً. ويبقى الأمر على ما هو عليه، حتى يصبح الظرف الدولي غير مواتٍ. فيموت مشروع الأسد.. بعد أن تكون «الأمة السورية» قد ماتت أو كادت.. بعد أن ماتت «الدولة السورية» معنى ومبنى.

كانت لحظة الثورة في العام 2011.. لحظة حقيقة، غشت سوريا في سياق الربيع العربي المغدور، تشظى حاجز الخوف وتشظى معه المجتمع، خرج الناس مطالبين بالكرامة لا أكثر.. ليأتي الرد الرسمي من أكثر صفحات كتاب القمع والاحتقار.. سواداً؛ فلم يكن إقراراً بلحظة الحقيقة، ولا استيعاباً لطموحات مشروعة، بل ارتداداً عنيفاً إلى أقصى درجات القمع.. والبقية من الماضي كما يقال.

لم يكن الانهيار السوري وليد لحظة، بل نتيجة تراكمات طويلة.. من تغييب المجتمع، وتهميش التنمية، وتفريغ الدولة من معناها المدني.

… ومع عسكرة الثورة، وتدويل الصراع، تحولت سوريا إلى ساحة لتصفية حسابات القوى الإقليمية والدولية، فانتهت دولة ما بعد الاستقلال، وظهر كيان ممزَّق.. لا يملك قرار الحرب، ولا السلام.

لم يكن السقوط فقط .. سقوط نظام أو سلطة؛ بل سقوط لفكرة الدولة الحديثة، التي تحكم باسم الشعب، وتخدمه. فالدولة القامعة – في لحظتها الأخيرة – ابتلعت شعبها بمظنة النجاة من الزوال.

وهكذا تحولت سوريا من دولة.. إلى مساحة جغرافية متنازع عليها. زمن مجتمع حي.. إلى مجتمع منفي أو محاصر. ومن حلم قومي.. إلى كابوس مستمر.

 لكنها، برغم ذلك، تظل مرآة حقيقة لأسئلة الإقليم الكبرى.. عن العلاقة بين السلطة والمجتمع، عن حدود الوطنية، عن مستقبل الدولة.. حين تنفصل عن مواطنيها، وتتحول إلى ذات معزولة، لا تنتج إلا الألم.

وبين السين والكاف.. يأتي البون الشاسع في حياة أمة أخرى. 

فمن «سوريا».. المبتلاة بعروبة عقلها السياس،. إلى «كوريا» الجنوبية.. التي قدمت نموذجاً معجزاً في التنمية – انتصرت فيه الإرادة على الجغرافيا – في ذات الخمسين سنة. 

وفي ذلك حكايا مقالنا القادم.

فكروا تصحوا..

نقلاً عن «المصري اليوم«

شارك هذه المقالة