Times of Egypt

حكاياتي في الجامعات الأمريكية 

M.Adam
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد 

هناك أسباب تجعلني شخصياً أهتم بما يجري في الجامعات الأمريكية، فهي من بين جامعات العالم، بعد الجامعات المصرية، أكثر الجامعات التي أعرفها عن قرب وعن معايشة، ومع أني قضيت فترة دراساتي العليا – بعد تخرجي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة – في جامعات أوروبية، وخصوصاً في سويسرا والمملكة المتحدة، إلا أن الظروف شاءت أن تكون الجامعات التي عملت فيها – بالانتداب أو الإعارة – هي جامعات أمريكية في الولايات المتحدة ومصر، وبعضها من بين الجامعات التي صبَّت عليها إدارة ترامب جامَّ غضبها، وقد كانت تجربتي في هذه الجامعات جد إيجابية بحكم إنتاجي العلمي. وفضلاً عن ذلك، فقد كانت تجربة سارة، ولذلك فإن الخواطر التي أسردها في هذا المقال هي تعبير عن العرفان والتقدير لهذه الجامعات. 

أقتصر هنا على الجامعات التي قضيت فيها وقتاً لا يقل عن بضعة شهور باحثاً زائراً أو أستاذاً يقوم بالتدريس، وهي جامعات كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وهارفارد وكولجيت. 
*** 
أطول الفترات التي قضيتها في جامعة بالولايات المتحدة، هي عام دراسي أمضيته بأحد فروع جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس؛ وهي جامعة عريقة تحتل مساحة واسعة تغطيها الخضرة في حي ويستوود الراقي بتلك المدينة. زرتها للمرة الأولى برفقة طالب دكتوراه مصري.. كان تلميذي في جامعة القاهرة، ثم أصبح صديقي – وهو المرحوم الدكتور إبراهيم كروان – والتقيت أثناء تلك الزيارة، وكانت في خريف سنة 1980 بأستاذة تاريخ مصرية مرموقة.. هي دكتور عفاف لطفي السيد، وعمها أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد. وهي معروفة باسم زوجها الفرنسي «عفاف مارسو». وقد تلقيت دعوة بعد ذلك بعشر سنوات للحضور إلى تلك الجامعة.. لقضاء عام جامعي فيها امتد إلى تسعة شهور باحثا زائرًا. 

قضيت سنة 1990 في تلك الجامعة.. مستفيداً من إمكانيات مكتبتها العامرة بالصحف المصرية – بما في ذلك صحف الجاليات الأجنبية في مصر مثل الصحف الأرمنية واليونانية – ولكني تمكنت من إتمام بحث عن النقاش حول قضية الخصخصة (أو بيع القطاع العام) معتمداً على نسخ صحيفة الأهرام.. المتوافرة كأفلام في مكتبتها، وصدر هذا البحث المطوَّل باللغة الإنجليزية في 90 صفحة عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة. 

كنت أذهب إلى مكتبي بمركز دراسات الشرق الأوسط (بمبنى رالف بنش ذي الطوابق الأحد عشر) كل صباح، وأمكث فيه حتى السادسة مساء.. منكباً على القراءة في كافة فروع علم السياسة، والكتابة في أبحاث متعددة، قدمت واحداً منها في مؤتمر عن مصر.. عُقد بباريس، ذهبت إليها على نفقة الجامعة، كما دعاني مدير المركز إلى أن أذهب إلى تورونتو بكندا.. بعد أيام من وصولي إلى لوس أنجلوس – على نفقة الجامعة – لحضور المؤتمر السنوي لجمعية دراسات الشرق الأوسط، وهي تكاد تكون الجمعية الأم.. لكل دراسات إقليمنا في العالم. 

إلى جانب انكبابي على البحث والكتابة، حضرت ندوات علمية عديدة في الجامعة؛ التي كان يُعقد العشرات منها كل يوم تقريباً.. ما عدا أيام العطلات، في كافة فروع المعرفة الإنسانية. طبعاً ليس هناك قيد على حضور هذه الندوات.. حتى لمواطنين عاديين، ليسوا من طلاب العلم، فالجامعة – بمبانيها الأنيقة وحدائقها الغناء – لا تحيط بها أسوار، ولا يراقب الدخول لها جهاز شرطة.  

أذكر أنه كان من بين من حضروا لإلقاء محاضرات فيها.. بنيامين نتنياهو بعد انتهاء فترته كمندوب دائم لإسرائيل في الأمم المتحدة 1984-1988. ذهبت إلى محاضرته، وكان أغلب الحاضرين من الطلاب اليهود، لم أعرف مواقفهم في ذلك الوقت، ولكن كان يحضر للقائي بين حين وآخر.. رجل دين يهودي كان متعاطفاً مع الشعب الفلسطيني. 

الدرس المهم – في تجربتي في تلك الجامعة – هو أنه حتى للقيام ببحث عن مصر، وباستخدام الصحافة المصرية، فإنه يسهل كثيراً القيام بهذا البحث في جامعة أمريكية.. بالمقارنة بإجرائه في مصر، ولذلك يفضل طلاب الدكتوراه المصريون الذين يذهبون للولايات المتحدة ويتخصصون في العلوم الاجتماعية أن يختاروا موضوعات مصرية لبحثها؛ لأن التسهيلات البحثية التي توفرها هذه الجامعات.. هي أفضل كثيراً مما يتوافر في مصر. 

وقد حرصت على أن يتمتع مثلي بهذه التجربة.. زملائي وزميلاتي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ولذلك توصلت لإبرام عقد مع قسم الشرق الأوسط بالجامعة، يسمح باستضافة أساتذة مصريين، ولذلك ذهب إلى تلك الجامعة – وبناء على هذا العقد – اثنان من أساتذة الكلية، أتيح لهما التدريس لمدة فصل جامعي.. لا يقل عن ثلاثة شهور؛ هما كل من الزميلين العزيزين دكتور جودة عبد الخالق، ودكتور حسن نافعة. بل نجحنا في أن ننظم مؤتمراً عن الاقتصاد المصري، ذهب للمشاركة فيه فريق متميز من أساتذة الكلية ضم على ما أذكر د. هالة السعيد، ود. سميحة فوزي، ود. عالية المهدي، ود. منى البرادعي، وكان ذلك في عامي 1991-1992. 

استفادت جامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس.. من حضور هؤلاء الأساتذة المصريين. لم يستفد من هذا التمويل السخي من أساتذتها.. سوى ثلاثة على ما أذكر حضروا إلى القاهرة، كان من بينهم مدير المركز في ذلك الوقت المرحوم جورج صباغ، وهو أستاذ اجتماع من يهود العراق. 
*** 
تجربتي الثانية الثرية، كانت بعد ذلك بعشر سنوات.. عند نهاية الألفية الثانية، قضيتها بجامعة هارفارد.. قائماً بالتدريس في كلية حقوقها ذائعة الشهرة، وكان موضوع تدريسي ذا شجون.. يدور حول حقوق الإنسان في الوطن العربي. دعاني للحضور إلى هارفارد أحد أساتذة تلك الكلية.. هو هنري شتاينر – الذي أشاركه الاهتمام بحقوق الإنسان – ونجحنا معاً في إخراج كتيب باللغة الإنجليزية.. عن الأبعاد الإقليمية والدولية لحقوق الإنسان في الوطن العربي. التقيته بالقاهرة في 1999 قبل استضافتي في هارفارد للتدريس في فصل الشتاء في تلك الكلية، وهو تدريس مكثف.. لا تقل ساعاته عن التدريس في فصل جامعي عادي. 

لم تكن تلك هي المرة الأولى التي ذهبت فيها إلى جامعة هارفارد، كنت قد دُعيت – أثناء وجودي في لوس أنجلوس عام 1990، لإلقاء محاضرة بمركز دراسات الشرق الأوسط بهارفارد.. عن «اقتراح الدولة الفلسطينية»، وكان موضوعاً جديداً في ذلك الوقت.. منذ أكثر من ثلاثة عقود ونصف، ودعتني لإلقاء المحاضرة زميلة زائرة في هارفارد.. هي العزيزة لينور مارتين، وهي بالمناسبة أمريكية يهودية. وقد اهتممت بالإعداد لهذا الموضوع، لأني توقعت ألا يكون المدعوون لمحاضرتي من المتعاطفين بالضرورة مع القضية الفلسطينية، ولذلك سعيت لمعرفة وجهات النظر العربية خصوصاً الرسمية، وساعدني في ذلك الوقت (السفير) عمرو موسى – مندوب مصر الدائم في الأمم المتحدة حينئذ – فاتصلت به وشرحت الموضوع، وكان كريماً معي؛ إذ أرسل كل البيانات المطلوبة لي بالفاكس، وكان استخدام الفاكس في ذلك الوقت جديداً على المصريين في الداخل والخارج على حد سواء. وحضر محاضرتي عشرات، وأظن – على ما أذكر – أن انطباعي عن تلقيهم للمحاضرة كان إيجابيًا. وقد نشرت مارتين بعد ذلك بعشرين سنة.. كتاباً تدافع فيه عن فكرة الدولة الفلسطينية. 

لم يتح لي انشغالي بالتدريس يومياً لمدة ساعتين، وضرورة التحضير له.. أن أشارك في أنشطة أخرى في الجامعة، ولكن كان من دواعي سروري، أن مكتبي كان في نفس مبنى عميد كلية الحقوق – في الطابق الثالث الذي يعلو مكتبه بطابق واحد – ولهذا التفصيل أهميته، إذ يوجد إلى جانب مكتبه.. قاعة معروفة في أغلب الجامعات الأمريكية والبريطانية.. تسمى القاعة العامة، توجد فيها كل الصحف اليومية، والأهم من ذلك.. آلة المشروبات الساخنة.. من قهوة وشاي، وشوكولاتة من أفخر الأنواع، فضلاً عما لذ وطاب من شطائر، ولكن هذه القاعة هي مكان اللقاء بين الأساتذة للأحاديث الخفيفة، وكان يسعدني كثيراً أن أتردد على هذه القاعة، لتبادل الأحاديث مع الأساتذة الآخرين، ومنهم عميد الكلية المرموقة. 
يؤسفني أنى لم أتمكن – خلال تلك الفترة – من لقاء أساتذة الجامعة، الذين تعلمت من كتاباتهم، وبعضها ناقد للديمقراطيات والاقتصادات الغربية. 
*** 
التجربة الثالثة كانت في جامعة أقل شهرة، ولكنها تحتل مكانة مرموقة.. بين ما يُعرف بكليات التعليم الليبرالي Liberal Art Colleges، وهي كليات تقتصر على المرحلة الأولى من التعليم الجامعي، وتركز أساساً على تدريس الإنسانيات والعلوم الاجتماعية والطبيعية – أي تبتعد عن الدراسات التطبيقية مثل الهندسة والطب والزراعة والصيدلة – وكانت هي جامعة كولجيت (في شمال ولاية نيويورك) ويعود تأسيسها إلى سنة 1819، وتتراوح مكانتها بين العاشرة والثانية والعشرين.. بين هذه الجامعات في الولايات المتحدة. 

يرتفع الطلب على الالتحاق بها؛ حيث تبلغ مصروفات الطلاب فيها سنوياً حدوداً تقرب من مصروفات جامعة هارفارد. قضيت فيها فصل الخريف 2005-2006 – بناء على اقتراح زميل أمريكي عزيز، عرفني من كتاباتي، واقترح على قسم العلوم السياسية هناك، أن أحل محله خلال الفصل الجامعي الذي يقضيه في الخارج، وقبل القسم – قبلت الذهاب إلى تلك الجامعة الصغيرة.. في مدينة صغيرة.. في إقليم شديد البرودة بالقرب من حدود كندا. ودرَّست فيها مقررين؛ عن الاقتصاد السياسي للتنمية.. في قسم العلوم السياسية، وكان ذلك بعد عامين من الغزو الأمريكي للعراق في 2003، وقد أخبرني بعض أساتذة الجامعة من خارج القسم، أن هذا القسم هو أكثر أقسام الجامعة رجعية، وكانت حجتهم في ذلك أنه القسم الوحيد في الجامعة، الذي يوجد فيه أستاذ يؤيد غزو العراق. وهكذا، فمن بين أساتذة القسم الذين يتجاوزون العشرين، فإن وجود هذا الأستاذ.. هو الذي خلع على القسم هذه الصفة. 

شاركت في أنشطة الجامعة العلمية والاجتماعية. حضرت محاضرة للكاتب والمعلق الأمريكي فريد زكاريا.. تحدَّث فيها عن الصين، وشاركت – بدعوة من اتحاد الطلاب – في ندوة عن القضية الفلسطينية، وفوجئت أن الذي شاركني في هذه الندوة.. أمريكي من أصول مصرية قريبة، ولكنه تبنى تماماً الرواية الإسرائيلية. وقد مكنتني تسهيلات المكتبة – المفتوحة حتى الثانية صباحاً كل يوم – من إتمام فصل عن الأبعاد الدولية لاستمرار النظم التسلطية في الوطن العربي.. في كتاب نشرته جامعة ستانفورد. 
*** 
لا يتسع المقام هنا للحديث عن كافة أبعاد تجربتي في الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية، ولا سنواتي في التدريس.. منتدباً ومعاراً في الجامعة الأمريكية في القاهرة، وهي – كما ذكرت – تجربة خصبة وسعيدة؛ بفضل مناخ الحرية الأكاديمية، واستقلال هذه الجامعات عن السلطة السياسية، وتسهيلات البحث العلمى فيها، وهو ما أتمنى أن أراه في جامعاتنا المصرية. 

نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة