مصطفى كامل السيد
عديدة هي الألغام السياسية.. التي تعترض تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة بين حماس وإسرائيل. كما أنها ألغام متكاثرة، فلا يكاد يمر يوم دون أن يضع رئيس الوزراء الإسرائيلي ألغاماً جديدة.. على طريق المفاوضات الهادفة إلى ترجمته على أرض الواقع.
المرحلة الأولى التي انتهتِ أسابيعها الخمس.. بعد حفلت بانتهاكات إسرائيل لالتزاماتها بوقف إطلاق النار ونفاذ المساعدات، فكم من الفلسطينيين والفلسطينيات لقوا حتفهم أثناء هذه المرحلة.. ضحية إطلاق النار عليهم من القوات الإسرائيلية، التي لم تجل بعد عن كل غزة. كما تعددت الشكاوى من عرقلة إسرائيل لوصول المساعدات، أحياناً بحجة أن جنودها الذين يدققون في حمولة الشاحنات الداخلة إلى القطاع من معبر رفح.. لا يعملون يومي الجمعة والسبت من كل أسبوع، وأحياناً أخرى – وهذه مشكلة مستمرة لأن السلطات الإسرائيلية لا تريد دخول المساكن المتنقلة ولا المعدات الثقيلة من جرافات وغيرها من المعدات الضرورية لإزالة ركام المباني التي دمرتها آلة الحرب الإسرائيلية، وهو أمر لازم لسهولة إيصال المساعدات وللتمهيد للإعمار. وقد ردت حركة حماس على هذه الانتهاكات، وتلك المماطلة.. بتأجيلها تسليم ثلاث من الرهائن، وثلاثة من جثامين أسرة إسرائيلية أسرتها يوم السابع من أكتوبر 2023، واقتضى ذلك تهديدات من كل من رئيس الوزراء الإسرائيلي باستئناف الحرب، ومن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه سيحول غزة إلى قطعة من الجحيم.. ما لم يتم إطلاق سراح كل الأسرى الإسرائيليين من جانب حماس يوم السبت قبل الماضي.
أطلقت حماس الأسرى الثلاث وأعادت لإسرائيل ثلاثة جثامين، ولكن خطأ غير مقصود من جانب مقاتلي حماس.. أدى إلى تسليم جسد فلسطينية لقيت حتفها في هذه الحرب، بدلاً من جسد الإسرائيلية والدة الرضيعين.. اللذين أعادت جثمانيهما. وهنا وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي فرصة – كان يتحينها – لإطلاق تهديداته من جديد.. باستئناف الحرب، ثم سلمت حماس جسد الإسرائيلية بعد أن تم التعرف عليها.. وسط بقايا ضحايا فلسطينيات أودت بحياتهن معها الغارات الإسرائيلية. طبعاً أنكر رئيس الوزراء الإسرائيلي – ومعه المتحدث العسكري الإسرائيلي – أن الأسيرة الإسرائيلية كانت ضحية المدفعية الإسرائيلية، وفق ما ذكرته حماس وأيده أفراد الأسرة الإسرائيلية.
الانتقال إلى المرحلة الثانية لغم آخر
بعد أن أوشكت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار على الانتهاء، حاول رئيس الوزراء الإسرائيلي تجنب البدء في المرحلة الثانية.. تحت ذرائع مختلفة، أسباب تردده معروفة. فهو ما زال متعلقا بأوهامه في تحقيق نصر كامل، لم يحصل عليه طوال الشهور الخمسة عشر.. التي استغرقتها هذه الحرب. هو لم ينجح في القضاء الكامل على حركة حماس، التي أظهرت أنها باقية بقوة من خلال إدارتها للجزء المحرر من القطاع، وحمايتها لقوافل المساعدات من السرقات، وتوفيرها للأمن، ونجاحها في تنظيم تسليم الأسرى بانضباط كامل. ومع وجود أعداد كبيرة من مقاتليها بزيهم العسكري وعرباتهم وأسلحتهم.. التي حصلت عليها من القوات الإسرائيلية. كما أن استعادة الأسرى الإسرائيليين كانت من خلال التفاوض وليس من خلال الحرب.
سبب آخر لمماطلته في البدء في مفاوضات المرحلة الثانية، أنه مع شركائه في الحكومة – وخصوصاً وزير ماليته بتسلئيل سموتريتش والوزير السابق للأمن إيتمار بن جفير – يريدون الاستمرار في الحرب، وتهجير سكان غزة، وتحويل القطاع إلى مستوطنات إسرائيلية. وبعد أن اضطر لقبول الدخول فيها تحت ضغط أسر الأسرى الإسرائيليين – الذين ما زالوا في غزة، والذين يؤيدهم قسم هام من الرأي العام الإسرائيلي، وتحت إلحاح من جانب مبعوث الرئيس الأمريكي ستيف ويتكوف، الذي لا يريد استئناف الحرب، والتي اعتبر وقفها نجاحاً له.. حتى قبل أن يدخل البيت الأبيض – فقد غيَّر الوفد المفاوض الذي كان يضم رئيسي الموساد والشاباك، ووضع على رأسه صديقاً له هو وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر، ثم بادر بطرح حجة عجيبة؛ وهي أن المرحلة الثانية لن تتم إلا بعد انسحاب حماس تماماً من غزة، وهي سابقة لم تشهدها أي مفاوضات دولية من قبل، وهي أن يطلب أحد المفاوضين، حتى ولو كانت مفاوضات غير مباشرة، أنه لن يقبل إتمامها إلا إذا انسحب الطرف المقابل له. فكيف يتصور أن هذا الطرف سيقبل التزاماته.. بموجب هذه المفاوضات، إذا كان ذلك سيصحبه اختفاؤه تماماً؛ ليس من المسرح العسكري وحده، ولكن من المسرح السياسي كذلك؟
اللغم الأخطر بقاء حماس في غزة
يشجع نتنياهو على طرح هذا الشرط – الذي بكل تأكيد لن يؤدي إلى وقف مفاوضات المرحلة الثانية التي يصر عليها الوسطاء الثلاثة فيها – أنه مطلب يلقى تأييداً، ليس من الولايات المتحدة وحدها، ولكنه يكاد يكون مطلب معظم الحكومات العربية، بل إن كبار المسؤولين في جامعة الدول العربية يلتقون معه في هذه الرغبة، كما عبرت عن ذلك تصريحات علنية وتعليقات إعلامية من الشبكات والصحف المعبرة عن مواقف هذه الحكومات.
دوافع الإجماع على هذا المطلب متباينة. الحكومتان الإسرائيلية والأمريكية لا تريدان بقاء أي مقاومة مسلحة فلسطينية.. لا في غزة ولا في الضفة الغربية. الحكومات العربية لا ترحب بالمثل الذي ضربته حماس – كحركة مقاومة مسلحة – ومعظمها لا يتحمل وجود أي معارضة، سلمية أو مسلحة، وهي لهذا السبب لا تبالي أن تمنح إسرائيل نصراً على مائدة المفاوضات، لم تنجح في الوصول إليه بعد خمسة عشر شهراً من الحرب الضروس.
يغيب ربما عن هذه الحكومات.. أنه مطلب غير واقعي. صحيح أن حركة حماس تخلت عن انفرادها بحكم غزة بعد انتهاء الاحتلال، وتقبلت المقترح المصري.. أن تدير غزة لجنة إسناد، تتوافق عليها حماس مع السلطة الفلسطينية.. التي لا وجود لها على أرض الواقع في غزة. ولكن لم تقبل حركة حماس أن تلقي سلاحها.. لمجرد انسحاب القوات الإسرائيلية وراء حدود القطاع؛ فلا تملك الحكومات العربية أن تثنيها عن ذلك، بل الأخطر من ذلك.. أن النص على وقف الحصار عن قطاع غزة، لم يرد في النص النهائي لاتفاق وقف إطلاق النار.. الذي وافقت عليه إسرائيل، وهكذا فالمطلوب من حماس هو انتهاء وجودها في قطاع غزة، رغم عدم وجود ضمانات بعدم عودة الاحتلال الإسرائيلي، ولا وقف الحصار الذي تفرضه إسرائيل على القطاع.. براً وبحراً وجواً، وهو ما حوَّله إلى أكبر سجن في العالم.
كما يسكت من يروجون لهذا الاقتراح، عن كيفية إنهاء وجود حماس في غزة. قادتها يرفضون ذلك، بل ولا يقبلون مجرد الحديث عنه. ومن السخف أن ينقل لهم أحد اقتراح رئيس الوزراء الإسرائيلي.. بأن إسرائيل ستضمن خروجهم أحياء من القطاع.. إلى أي مكان آخر، فليكن تركيا مثلاً أو قطر، كما فعلت عندما سمحت لياسر عرفات بالخروج من بيروت المحاصرة بحراً إلى تونس في صيف 1982. موقف حماس مختلف. بيروت استضافت المقاومة الفلسطينية، ولم يكن كل الشعب اللبناني مرحباً بوجودها، وخروج ياسر عرفات كان لاستئناف النضال للعودة إلى فلسطين، هو ما فعل بعدها باثنتي عشرة سنة. ولكن غزة هي أرض فلسطين، وهي أرض حماس. ثم لا يجرؤ أي من أنصار هذا الاقتراح.. أن يشرح كيف سيتم نزع سلاح حماس؛ سواء وافق قادتها على هذا الاقتراح أو لم يقبلوه.
لا أظن أن أي حكومة عربية ستقبل أن تكون مشاركة في أي عمل.. يستهدف نزع سلاح حماس، هي مخاطرة جازفة لأي حكومة عربية، تنوب عن إسرائيل في هذا العمل، وهو خطيئة لا تُغتفر من جانب الحكومة.. في مواجهة قطاعات كبيرة من الرأي العام العربي.
اللغم الأخير.. إعمار غزة
لا يقلل من صعوبة هذا اللغم الأخير، أن الرئيس الأمريكي قد تراجع عن اقتراحه بتهجير الفلسطينيين والفلسطينيات من غزة إلى الأبد، ليفسحوا المجال لوهم تحويلها إلى منتجع سياحي كبير على شاطئ البحر المتوسط، وهو ما كان يحلم به جاريد كوشنر زوج ابنته.. الذي كان أول من أفصح عنه في محاضرة له، يؤسفني أنه ألقاها في جامعة هارفارد العريقة. وأرجع الرئيس الأمريكي تراجعه.. إلى عدم ترحيب الحكومتين المصرية والأردنية به، وهما ما كان يقترح أن تستضيفا مليوني وثمانمائة ألف من فلسطينيي غزة.
تعد الحكومة المصرية مشروعاً بديلاً، وأتمنى أن تشرك فيه عقول مصر من أساتذة التخطيط العمراني والعمارة في الجامعات المصرية، وأن تستفيد من اجتهادات الراحل حسن فتحي في العمارة للفقراء؛ التي كانت موضع الاقتداء والتقدير في دول عديدة. فلا توجد صعوبة فنية أن يتم الإعمار مع وجود الفلسطينيين في القطاع، ويمكن أن تتوافر لهم أماكن آمنة.. يقيمون فيها مؤقتاً حين إعمار المناطق التي سيقيمون فيها على نحو دائم. ربما تكون أخف العقبات.. هي التمويل، الذي قدَّرته الحكومة المصرية في المرحلة الأولى بعشرين مليار دولار، وقدَّرته الأمم المتحدة كتكلفة كلية بثلاثة وخمسين مليار دولار.
في الدول العربية ما يغطي هذه التكلفة ويفوق ذلك، ولكن الذين يرغبون في المساهمة في إعمار غزة.. لهم شروطهم، وهي ليست فقط شروطاً مالية، بل هي سياسية في المحل الأول. وهل ستترك لهم إسرائيل والولايات المتحدة – وشركاتهما – الحرية في أن يفعلوا ما يشاءون، أو الأمن الضروري لقيامهم بعملهم المأمول.
هذه بعض الألغام التي تسمح بها هذه المساحة، ولنا عودة لمناقشة ألغام أخرى قد توجد، وللحديث حول كيف يمكن للعرب نزع هذه الألغام إذا ما توفرت الإرادة.
نقلاً عن «الشروق»