د. أحمد يوسف أحمد..
استعرضت المقالة الماضية الخطر النابع من أفكار الرئيس الأمريكي بشأن غزة، وحتمية مواجهته، والموقف المصري الحاسم والرشيد تجاهه، وهو موقف يتكون من 3 عناصر متكاملة، أولها: الرفض القاطع للتهجير، وهي سمة أكيدة للسياسة المصرية عموماً ومنذ 7 أكتوبر خصوصاً. والثاني: المبادرة بخطة بديلة للطرح الأمريكي. والثالث: توفير أقوى ظهير عربي ممكن لهذا الموقف.. بالدعوة إلى قمة عربية تُعقد بإذن الله بعد أيام قليلة.
وأشارت المقالة – كذلك – إلى أن مسؤولية القمة لن تقتصر على تأكيد الرفض القاطع لمخطط التهجير، وإسباغ الصفة العربية على الخطة المصرية.. بعد مناقشتها وتطويرها – إذا لزم الأمر – بما لا يُخِل بثوابتها، وإنما تأتي بعد ذلك مهمة التنفيذ، وهو ما لن يتم بدون تفاهم سياسي مع دولة الاحتلال، التي يصر رئيس وزرائها على أن يكون «اليوم التالي» في غزة.. إسرائيلياً بامتياز، وهي صعوبة جسيمة في ظل المزاج الإسرائيلي السائد الذي لا شك في أنه بالغ السوء؛ بسبب ما أظهرته التطورات التي صاحبت خطوات تنفيذ اتفاق الهدنة حتى الآن، والتي تثبت أن إسرائيل – رغم كل القتل والتدمير – لم تحقق هدفها الاستراتيجي حتى الآن؛ وهو اجتثاث «حماس» كما يتوهمون. فها هي «حماس» تظهر في ذروة تماسكها والالتفاف الجماهيري حولها.
وبالتالي فإن توقعات كثيرة.. تذهب إلى أن نتنياهو لا يريد أن يصل إلى تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، ويتأهب – كما يقول صراحة – لاستئناف القتال في أي لحظة. ومع أن هذا احتمال وارد بالفعل، إلا أنني أعتقد أن قرار العودة للحرب ليس سهلاً؛ سواء بالنظر لخبرة صمود المقاومة 14 شهراً، أو لأن أحداً لا يعرف يقيناً قدراتها الراهنة. وإن كانت المشاهد الأخيرة لحضورها تشير على الأقل لتماسكها، أو لتناقض الموقف الأمريكي.. بين أفكار صب الجحيم على غزة، وتهجير سكانها، وجهود مبعوث ترامب لضمان استكمال تنفيذ الاتفاقية.
وبافتراض أن القمة ستخرج بخطة لإعادة إعمار غزة بإذن الله، فإن تنفيذ هذه الخطة لا يمكن أن يبدأ دون أفق سياسي، ويجب هنا أن نُفَرق بين جهود الإغاثة.. التي بدأت بالفعل، ويجب الاستمرار فيها، وتسريع وتيرتها. وجهود إعادة الإعمار.. التي ستستغرق أعواماً بكلفة عالية، وهذه لا يمكن أن تبدأ دون أفق سياسي، ذلك أن إنجازات إعادة الإعمار ستكون مهددة في أي لحظة.. إذا غاب الأفق السياسي؛ مما يعني استمرار التعارض، ومن ثم احتمال استئناف القتال في أي وقت وتدمير ما تم إنجازه.
والمعضلة، أن الأفق السياسي الإسرائيلي يعني غزة غير فلسطينية؛ فنتنياهو لا يريد «حماس»،ولا السلطة الفلسطينية، بل إن ثمة أفكاراً غريبة تطالب بخروج «حماس» أصلاً من غزة، وهناك عدد من الملاحظات على هذه الفكرة..
الملاحظة الأولى: أنها تبدو متأثرة بسابقة خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت 1982، والفرق شاسع بين الموقفين، ففي 1982 كان الخروج من لبنان – الدولة العربية التي مثلت آنذاك قاعدة للمقاومة الفلسطينية – أما الآن فالمطلوب خروج المقاومة من وطنها.
والملاحظة الثانية: أن «حماس» – وإن كانت أهم فصيل للمقاومة في غزة – إلا أنها ليست وحدها قوام هذه المقاومة، فقد شارك معظم فصائلها فيها، وبالتالي يمكن النظر للمطالبة بخروج المقاومة في غزة، باعتبار أنها تكاد تكون مرادفاً لمطلب التهجير.
والملاحظة الثالثة: أن «حماس» ليست سلاحاً فقط، وإنما فكرة وتنظيم سياسيان لا يمكن مواجهتهما عسكرياً فقط، وإنما لا بد من النهج السياسي في هذه المواجهة، وبدون ذلك لا يمكن تحقيق الاستقرار والأمن للجميع.
… وأخيراً فإن الخروج الوحيد الممكن من غزة.. هو خروج سلاح المقاومة منها، وهو عمل غير ممكن.. دون تسوية سياسية متوازنة – تدور حول حل الدولتين – ترفضها إسرائيل حتى الآن.
وتأتي استحالة التخلص من سلاح المقاومة دون أفق سياسي.. من منطق الاستعمار والتحرير؛ فالعملية الاستعمارية – تاريخياً – تولد مقاومة، والمقاومة وفقاً لخبرة التاريخ تتصاعد حتى تنتصر، مهما كانت التضحيات والتكلفة؛ ولنا في تجارب التحرر الوطني في الجزائر وجنوب إفريقيا – وغيرهما الكثير – أسوة حسنة، والسلطات الاستعمارية تُصاب عادة بالعمى الإدراكي.. فلا تفهم هذا المنطق، بل إن تطرفها يزداد في المراحل الأخيرة من العملية التحررية، التي يحقق فيها المناضلون من أجل حريتهم.. مكاسب مؤثرة. ولنأتِ لحالتنا تحديداً، حيث تطالب إسرائيل بألا يكون لحماس دور سياسي في غزة، وأن تخرج منها.. دون تحديد واضح لنطاق هذا الخروج؛ بمعنى هل يشمل قادتها فقط، ومن هم قادتها في هذه الحالة؟ أم يمتد لنخبتها القيادية؟ وكيف سيتم تحديدها؟
وبداية، فإن إخراج أي مواطن من أرضه.. مرفوض، والمقبول الوحيد هو تسوية سياسية متوازنة، تضمن الحد الأدنى من استعادة الحقوق (حل الدولتين). أما اشتراط تخلي «حماس» عن حكم غزة، فإن الأفكار المصرية الخاصة بـ «لجنة الإسناد التكنوقراطية».. غير الفصائلية، كفيلة بحل هذه المشكلة. وهي أفكار قبلتها «حماس»،ويبقى أن تقبلها باقي الأطراف الفلسطينية.
وأما نزع سلاحها، فسوف يكون ممكناً فقط.. حال تلبية المطلب الفلسطيني والعربي بحل الدولتين.وإلا.. فكأننا نكافئ إسرائيل على جرائمها في غزة وعموم فلسطين. وإذا كانت إسرائيل لا تقبل هذه التسوية فلتتذكر أنها أخفقت على مدى 14 شهراً في تحقيق أهدافها بالقوة، وأنها ستواجه ظروفا صعبة في الميدان وخارجه؛ عسكرياً وسياسياً.. إن هي أصرت على منطق الاستعمار الإحلالي الاستعلائي.
ولتكن رسالة القمة إلى إسرائيل والعالم.. شديدة الوضوح؛ ومفادها أن النزوع الفلسطيني والعربي للسلام لا لبس فيه – سواء منذ اتفاق أوسلو ،1993 الذي اعترفت منظمة التحرير بموجبه بإسرائيل، أو المبادرة العربية 2002،التي نصت على تطبيع الدول العربية كافة.. علاقاتها مع إسرائيل، حال استجابتها للمطالب المحددة في المبادرة.
أما إذا أصر حكام إسرائيل على التمسك بمنطقهم الاستعماري التوسعي.. رغم كل هذه المرونة الفلسطينية والعربية، فليتحملوا مسؤولية استدامة الصراع وتفاقم الانقسام في جبهتهم الداخلية، وتصاعد الرأي العام الدولي المعادي لهم، وقبل كل شيء.. استمرار المقاومة وصمودها لا في غزة وحدها، وإنما في كل مكان تطوله يدها.
نقلاً عن «الأهرام»