د. أحمد يوسف أحمد
تواجه مصر – والنظام الإقليمي العربي – تحديات حقيقية، تتعلق بحاضر الصراع العربي-الإسرائيلي.. ومستقبله. وتتركز بؤرة هذه التحديات حالياً.. في تحدي تهجير أهل غزة، واقتراح مصر والأردن بالأساس.. وطناً بديلاً لهم، وهو ما يفرض ضرورة التصدي لهذا الطرح.. المجافي لكل الاعتبارات القانونية والإنسانية والأمنية.
ويعتري البعض القلق من حسابات المواجهة، وما يمكن أن تُفضي إليه من مخاطر وأضرار، وهو قلق مشروع، لكن ثمة ملاحظتين أساسيتين.. جديرتين بالتنويه، أولاهما: أنه عندما تتعلق الأمور بالقيم العليا للوطن والدولة، فإن المواجهة لا تكون خياراً.. وإنما أمراً محسوماَ من بين أكثر من واحد منها.
أما الملاحظة الثانية: فهي أن مصر – عبر تاريخها – ليست حديثة عهد بالتحديات والمخاطر، وأنها بحمد الله قد اجتازت بنجاح دائماً.. امتحان المواجهة، بفضل إرادة شعبها وصموده، وتوحده مع قيادته، والسوابق كثيرة.. يضيق بها حيز المقال. لكنني أكتفي بعدوان 1967، الذي ظن الكثيرون أن مصر لن تقوم لها قائمة بعده، لكن شعبها لم يتوقف ولو لحظة بعد وقوعه، وإنما استأنف على الفور نضاله السياسي والعسكري، بدءاً بملحمة رأس العش في أول يوليو 1967، وانتهاء بإنجاز أكتوبر 1973.. الذي محا كبوة الهزيمة إلى الأبد.
ويُلاحَظ أن السياسة المصرية تتصرف في مواجهة التحدي الراهن بمنتهى الرشادة، فهي تصر على موقفها الرافض للتهجير.. لاعتبارات محسومة، ولكن دون تصعيد لا يحتمله الموقف، وإن تحسبت لأي تطورات محتملة، ما دامت لغة العقل تبدو غائبة.. عند الأطراف المفتونة بأفكار التهجير وغيرها، ويمكن وصف الرفض المصري بالرفض الإيجابي؛ بمعنى عدم الاكتفاء بالرفض، وإنما العمل على بلورة خطط بديلة.. تُمكِّن من مواجهة مشروع التهجير بشكل عملي.
وبطبيعة الحال، فإن الأطراف المترصِّدة للشعب الفلسطيني، والأمن المصري والعربي، لن تقبل هذه الخطط بسهولة، ومن هنا سعيُ السياسة المصرية لحشد أقوى ظهير عربي ممكن، علاوة على التحركات الدولية الواسعة في الاتجاه ذاته. وقد وصلت هذه التحركات إلى ذروتها.. بالدعوة المصرية لقمة عربية طارئة، تُعْقَد بإذن الله.. في 4 مارس المقبل. وتعيد هذه الدعوة الألق إلى تقاليد القمم العربية، التي ارتبطت دائماً بتحديات مصيرية؛ كتعاظم الخطر الصهيوني على فلسطين في 1946، والعدوان الثلاثي على مصر في 1956، والمشروعات الإسرائيلية لتحويل مجرى نهر الأردن في 1963، والعدوان الإسرائيلي في 1967، والصدام بين السلطة الأردنية والمقاومة الفلسطينية في 1970، وتفاقم الخطر الإيراني إبان الحرب العراقية-الإيرانية في 1987، والغزو العراقي للكويت في 1990، وهكذا.
صحيح أن القمم العربية غابت.. في مواجهة تحديات مصيرية، كما حدث عقب الغزو الأمريكي للعراق في 2003، وفي أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006، لكن التهاون في مواجهة التحدي الراهن.. من شأنه ألا يُفضي إلى تصفية القضية الفلسطينية فحسب، أو يهدد أمن الدول العربية المحيطة بفلسطين فقط، وإنما أن يهدد الأمن العربي ككل، ويؤسس لنظام إقليمي جديد.. على أنقاض النظام العربي؛ تكون لقوى غير عربية – على رأسها إسرائيل – اليد العليا فيه.
ومن حُسن الحظ، أن المهمة الأساسية للقمة العربية.. ستكون سهلة، بمعنى الإجماع الواضح على رفض مخطط التهجير.. بغضِّ النظر عن مماحكات لفظية هنا وهناك، كما أن الاتفاق على خطة عربية لمواجهة مخطط التهجير.. سيكون ممكناً؛ خاصة أن الخطة المصرية ستكون أساساً معداً جيداً للنقاش، مع ضرورة الحذر من محاولة تضمينها أي عناصر.. يمكن أن تفتح الباب لثغرات تمس بالهدف منها، غير أن التحدي الأساسي.. سيتمثل في قبولها من الطرفين الإسرائيلي والأمريكي.
وهذا يقودنا مباشرة.. إلى أفكار «اليوم التالي»، التي تنطوي على تناقض كامل بين وجهة النظر الإسرائيلية-الأمريكية، ووجهة النظر التي تتبناها الأطراف العربية.. الحريصة على المصالح الفلسطينية والعربية؛ ذلك أن وجهة النظر الإسرائيلية.. التي يمثلها نتنياهو – والمدعومة أمريكياً – تُصر على أن «اليوم التالي»، يجب ألا ينطوي على أي دور لحماس أو السلطة الفلسطينية. وهذا هو الهراء بعينه، والوصفة المضمونة لاستدامة الصراع في فلسطين.. بل ومجمل الشرق الأوسط؛ فالمعنى الأكيد للأخذ بهذه الأفكار.. هو أن «اليوم التالي» في غزة سيكون إسرائيلياً بامتياز، وهو ما يعني أن إسرائيل تريد أن تحقق بالدبلوماسية.. ما عجزت عن تحقيقه بالحرب، وأن «اليوم التالي» – بهذه المواصفات الإسرائيلية-الأمريكية – سيكون اليوم السابق على حرب جديدة.. لا يعلم نتائجها إلا الله.
ومن هنا، فإن المهمة الصعبة للقمة ستكون – بالإضافة إلى التأكيد القاطع لرفض التهجير وإعداد خطة بديلة له – هي التوصل لمواصفات «يوم تالٍ فلسطيني».. يُبنى على أساس أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الأوحد.. في رسم مستقبله، مع مراعاة الظروف الواقعية فلسطينياً وعربياً ودولياً.
أما أفكار نتنياهو الشاذة – التي تستبعد كل ما هو فلسطيني لحساب الهيمنة الإسرائيلية (لا لحماس والسلطة الفلسطينية) – فمكانها الوحيد سلة المهملات. والمهمة صعبة بطبيعة الحال، ولكنها ليست مستحيلة؛ فحماس أول من يعلم.. أن استمرار انفرادها بالسلطة في القطاع مستحيل؛ على الأقل.. لأنه لن يكون بمقدورها – بمفردها – تحمل مسؤولية إعادة الإعمار، بالإضافة إلى وجود قطاع من أهل غزة.. يختلفون معها في منهج إدارة الصراع مع إسرائيل. غير أن استبعادها من المعادلة في غزة – بل والضفة – مستحيل، خاصة وقد أوضحت المواجهة التي امتدت لأكثر من سنة.. مدى تماسكها وصمودها في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، وتمتُّعها بحاضنة شعبية يُعتد بها، اللهم إلا إذا كنا نريد إحلال صراع فلسطيني-فلسطيني محل الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، فما العمل؟
تُعد الأفكار المصرية.. بشأن تكوين «لجنة إسناد» تكنوقراطية، تحظى برضا جميع الفصائل.. نموذجاً على الكيفية التي يمكن الخروج بها من هذا المأزق، وهذا ما تناقشه المقالة القادمة بإذن الله.
نقلاً عن «الأهرام»