د. أحمد يوسف أحمد..
ليس الحديث عن طرد شعب فلسطين من أرضه.. استكمالاً للمشروع الصهيوني الإحلالي بالجديد، بل هو ركن أصيل من أركانه، ومع أن «إعلان بلفور» في 1917، نص على احترام حقوق من سماهم بـ «الجماعات المقيمة في فلسطين»، إلا أن الحركة الصهيونية بما جُبِلَت عليه من وضوح استراتيجي، ودهاء تكتيكي، قبلت الإعلان على علاته.. من وجهة نظرها، لأنها كانت تثق بقدرتها – حين تتمكن من الأرض – على العمل لتحقيق أهدافها. وهكذا بدأت عمليات التهجير القسري منذ اللحظات الأولى لنشأة إسرائيل.. بالعنف والترويع والإرهاب، الذي يتهمون به الفلسطينيين الآن. وطيلة مسيرة هذه الدولة – التي تجاوز عمرها ثلاثة أرباع القرن بقليل – لم تترك فرصة سنحت.. لاستكمال مخطط تفريغ الأرض الفلسطينية من شعبها.
وكان عدوان يونيو 1967 -الذي استكملت فيه إسرائيل احتلال فلسطين – علامة بارزة في هذا المسار. ومنذ بدأت عملية «طوفان الأقصى»،والصدمة التي سببتها للقيادة والمجتمع في إسرائيل، اكتسب حديث التهجير من غزة زخماً قوياً؛ خاصة وقد كانت دائماً شوكة لم يمكن كسرها أبداً في الجسد الإسرائيلي، حتى إن أحد قادة إسرائيل قال يوماً.. إنه كان يحلم عندما يأوي إلى فراشه بأن يصحو ليجد أن غزة قد ابتلعها البحر، وحتى اضطُر إرييل شارون – وهو واحد من أشرس قادتها – إلى ما سُمي بفك الارتباط من جانب واحد، وهي التسمية الأقل إهانة لإسرائيل.. لاضطرارها إلى الانسحاب من غزة في 2005،تحت وطأة ضربات المقاومة، بل وتفكيك المستوطنات القريبة منها.. اتقاءً لضربات المقاومة؛ في سابقة أولى لتفكيك مستوطنات إسرائيلية. وكان شارون يقول – على أهم هذه المستوطنات – إنه يمكن أن يفكك تل أبيب.. ولا يفكك هذه المستوطنة. وكانت الفكرة الساذجة – التي يتبناها عادة كل من لا يفهم منطق التاريخ – أنه إذا كان القضاء على المقاومة في غزة مستحيلاً، فليكن القضاء على وجود أهلها.. على أرضهم، بل إن أحد الحمقى من قادتهم، دعا يوماً.. لضربها بقنبلة نووية بعد «طوفان الأقصى».
وقد أشارت طبيعة العمليات العسكرية في غزة، إلى أن الهدف من هذه العمليات لم يكن فقط القضاء على المقاومة المسلحة؛ وإنما قتل أكبر عدد ممكن من فلسطينيي غزة، وإجبار من ينجو منهم.. على الهرب منها، بعد تحويلها إلى مكان غير قابل للحياة.
وأعترف – رغم يقيني بمنطق التاريخ – بأنني.. بعد أن بلغت وحشية العمليات العسكرية في غزة مبلغها، أن الشك قد تملكني.. من أن هذه ربما تكون لحظة انكسار، قد تطول لغزة وأهلها. غير أن شعبها –كعادته – أكد صلابته التي لا تُصَدَّق؛فصمد في مواجهة المجرمين، وواصل مقاوموه صمودهم الأسطوري، بل صعَّدوا من وتيرة عملياتهم.. حتى آخر لحظة، لدرجة أن بعض المراقبين.. ذهب إلى أن نتنياهو قد رضخ للصفقة، ليس لأن ترامب ضغط عليه، ولكن لعجزه عن أن يحقق الجديد.. في مواجهته مع المقاومة. وكان مشهد العودة التاريخي.. من جنوب غزة لشمالها.. مشهداً تاريخياً بكل المقاييس، ولو سمع الإسرائيليون إجابة الكهل الغزاوي – وهو عائد إلى أرضه المدمرة سيراً على الأقدام – على سؤال حول مشاعره في تلك اللحظات.. لأصابهم اليأس من الانتصار في حربهم على الفلسطينيين، فقد قال الرجل بعينين دامعتين: كأنني ذاهب للحج.. بل أكثر.
ومع هذا الفشل الذريع، يأتي دور الحليف الأمريكي – الذي لولاه لما صمدت إسرائيل في حربها الحالية – فيصرّح الرئيس الأمريكي.. دون مناسبة أو مقدمات، بما يفيد بأن الحل الأمثل لمأساة الغزاويين.. أن تستقبلهم مصر والأردن. والسبب المعلَن – على لسانه – أن الأوضاع في غزة لا تطاق.. بسبب التدمير الذي شهدته، مدعياً أن الخروج يُسَهل إعادة الإعمار، ومحدداً الرقم المتصور لمن سيخرجون.. بمليون إلى مليون ونصف المليون. أي بما يهيئ غزة.. لأن تكون تكراراً للوضع في إسرائيل؛ بأغلبية يهودية كبيرة.. وأقلية فلسطينية مُهَمَّشة.
وثمة ملاحظات عديدة على هذه التصريحات، أولاها: أنها تتسق مع سجل ولايته الأولى، التي قدّم فيها لإسرائيل ما لم يقدمه رئيس قبله؛ وأهمه اعترافه بالقدس عاصمة لها، تنفيذاً لقرار الكونجرس في 1995.الذي لم ينفذه 3 رؤساء أمريكيين سبقوه، قضى كل منهم مدتين في الحكم – وهم بيل كلينتون وجورج بوش الابن وباراك أوباما – لتقديرهم لما يمكن أن يسببه من مشاكل لعلاقات الولايات المتحدة مع البلدان العربية. ولم يكتف ترامب بهذا، وإنما أضاف إليه.. اعترافه بشرعية الاستيطان، وضم إسرائيل الجولان. وها هو يضيف مبادرته.. بالمساهمة في تحقيق الحلم الصهيوني، بإفراغ غزة من أهلها والبقية تأتي. والملاحظة الثانية:أنه تصدَّى – بنفسه – لطرح هذه الفكرة، والدفاع عنها وتبريرها.. دون أحد من مساعديه، بما يتسق مع أسلوبه غير المؤسسي في الحكم، الذي يجعل كثيراً من أفكاره.. غير مستند إلى أسس موضوعية.
والملاحظة الثالثة:أن أفكاره تتناقض – على نحو مطلق – مع حق تقرير المصير، علماً بأن الشعب الفلسطيني في غزة والضفة.. بل في كل أماكن وجوده؛ متمسك بأرضه، بل بحق من أُخرجوا من وطنهم بالعودة إليه. والملاحظة الرابعة الأخيرة:أن تبرير الدعوة للتهجير مضحك.. وهو أن غزة دُمرت، وصارت الحياة فيها مستحيلة. وبدلاً من حديث المسؤولية عن جرائم الحرب.. التي ارتُكبت بحق غزة وأهلها، والبحث في محاسبة مرتكبيها، وكيفية إعادة إعمارها، يأتي اقتراح طردهم من أرضهم.. بحجة سخيفة، دون أدنى ادعاء بوجود أي خطة، أو حتى تفكير في الكيفية.. التي ستسير بها حياتهم في المهجر، وآليات إعادة الإعمار المزعومة.
والحقيقة، أن فساد هذه الأفكار.. لا يرجع – فحسب – لما تنطوي عليه من إجحاف، وعصف بحقوق شعب تحمّل ما لا يطيقه بشر، وإنما لأنها – ببساطة – وصفة أكيدة لاستدامة الصراع الحالي عقوداً طويلة مقبلة، ومن ثم إشاعة مزيد من عدم الاستقرار في المنطقة، وتفجير مزيد من المواجهات المسلحة والحروب.. التي لا يقتصر نطاقها على أطراف الصراع المباشرين فحسب؛ وإنما يمتد بطول الإقليم وعرضه، كما رأينا في المواجهة الحالية، التي لا يوجد حتى الآن ما يؤكد متى تنتهي.. على ضوء هشاشة اتفاق الهدنة الحالي، خاصة مع نيات نتنياهو الواضحة للعصف به في أول فرصة، علاوة على هشاشة مماثلة للوضع في لبنان، واستمرار العمليات الإسرائيلية في الضفة بما يهدد بتحويلها إلى غزة ثانية.
لذلك كله، كان منطقياً أن تُقابل هذه الأفكار.. بمعارضة مطلقة من كل من يعنيهم الأمر – وعلى رأسهم الشعب الفلسطيني صاحب الحق، ومصر والأردن المعنيتان مباشرة بمخطط التهجير – ولذلك كله جاء الرفض الجماعي لتلك الأفكار المشوهة.. بدءاً بالطرف الفلسطيني. واللافت هنا، وحدة المواقف الشعبية والرسمية الفلسطينية، كما سارعت مصر والأردن إلى إعلان رفضهما رسمياً وشعبياً، وزاد رد فعل الرئيس الأمريكي.. من اشتعال الموقف، بقوله – عندما سُئل عما ينتويه في مواجهة هذا الرفض – إن مصر والأردن ستفعلان ذلك.. لأنه فعل لهما الكثير، وتناقش المقالة المقبلة كل الاحتمالات.
نقلاً عن «الأهرام»