د. أحمد زكريا الشلق
في العقد الأخير من القرن العشرين نشر المؤرخ والمفكر البريطاني.. من أصل عربي، الدكتور ألبرت حوراني (1915 -1993)، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط بجامعة أكسفورد، كتاباً تحت عنوان «الإسلام في الفكر الأوروبي» – تُرجم ببيروت عام 1994 – بدأه بالحديث عن أن الإسلام شكَّل منذ ظهوره.. مشكلة لأوروبا المسيحية، التي نظرت إلى المؤمنين به.. كأنهم أعداء يقفون على حدودها؛ ففي القرنين السابع والثامن الميلاديين، كانت جيوش المسلمين تحارب وتغزو باسم أول إمبراطورية إسلامية، وهي الخلافة، حتى توسعت في قلب العالم المسيحي، فاحتلت مقاطعات من الإمبراطورية البيزنطية في سوريا والأراضي المقدسة ومصر، واتجهت غرباً حتى شمال إفريقيا وإسبانيا وصقلية. ولم تكن الفتوحات الإسلامية عسكرية خالصة، بل تبعها، على مر السنين، اعتناق الدين الإسلامي على نطاق واسع.
وبالرغم من نجاح القوى المسيحية في القيام بهجوم معاكس، نجح في احتلال الأراضي المقدسة، وأسس مملكة بيت المقدس اللاتينية فترة من الزمن، وبشكل دائم في إسبانيا، إلا أن توسعاً إسلامياً آخر قد امتد إلى ممالك الشعوب التركية، حين تقدم السلاجقة في بلاد الأناضول، وقضى العثمانيون بعد ذلك على ما تبقى من الإمبراطورية البيزنطية، واحتلوا القسطنطينية، وتوسعوا حتى شرق أوروبا ووسطها، واستطاعوا في نهاية القرن السابع عشر.. احتلال كريت وتهديد فيينا. ولم تقتصر العلاقة بين المسلمين والمسيحيين الأوروبيين على مجرد علاقة حرب مقدسة، وإنما كانت علاقات شملت مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية. وتزايد اهتمام الأوروبيين بعالم الإسلام في العصور الحديثة.
لقد تغيرت طبيعة هذا الاهتمام في بعض النواحي – خاصة بعد أن انتهى التحدي العسكري المرتبط بالإمبراطورية العثمانية، مع تبدل التوازن العسكري لمصلحة أوروبا – مما أدى إلى توسيع تجارتها في البحر المتوسط والمحيط الهندي، ثم كانت بدايات الاستيطان والاستعمار الأوروبي.. الذي فرض نفوذه واحتلاله معظم بلاد العالم الإسلامي في القرن التاسع عشر، وحتى النصف الأول من القرن العشرين. وخلال هذه القرون ظل الاهتمام الأوروبي بعالم الإسلام قوياً، وظل هذا العالم جاذباً كثيراً من الرحالة والمغامرين والمبشرين والتجار، علاوة على القناصل والساسة والجواسيس.. بطبيعة الحال؛ الذين قدَّموا لشعوبهم وحكامهم مؤلفات وتقارير وكتابات، ضمت تصوراتهم عن الإسلام وعالمه، أياً كانت درجة وعيهم بذلك، وما زالت هذه الكتابات تترى – في تاريخنا المعاصر – بأشكال وأساليب أكثر عصرية وتطوراً.. بطبيعة الحال.
وأعتقد أن من واجبي أن أوضح للقراء – خاصة الشباب الذين أتوجه إليهم بكتاباتي – ما الذي أقصده بمصطلحي «الإمبريالية» و«الاستشراق»؛ خاصة، وأن أذكر أن المصطلح الأخير موضوع دراسات عديدة في الشرق والغرب، تزايدت منذ وضع إدوارد سعيد – المفكر والناقد الأمريكي من أصل فلسطيني – كتابه المهم «الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق» عام 1978. وفيما يتعلق بمصطلح الإمبريالية، فهو مشتق من كلمة «إمبراطورية» Empire؛ التي تعني تأسيس إدارة إمبراطورية.. قائمة على الغزو والتوسع في مختلف المجالات خاصة الصناعية والتجارية، وذلك بسلوك إمبريالي، ومن هنا ظهر مصطلح «النزعة الإمبريالية» Imperialism، الذي قد يترادف مع مصطلح «الاستعمار» Colonialisation.. أو النزعة الاستعمارية Colonialism، حسب السياق.
وعلى هذا، فمعظم موسوعات المصطلحات تربط بين الإمبريالية والاستعمار، وتفيد بأن المصطلح الأول يعني حرفياً «نزعة تكوين إمبراطورية» Empir-ism؛ فهي مظهر من مظاهر المجد والسيادة لدى الدول الكبرى، لبسط نفوذها المادي والأدبي على الدول الصغرى.. خاصة في آسيا وأفريقيا وأستراليا وأمريكا اللاتينية. وبذلك تُعد قوة استعمارية.. تلك التي تسعى للسيطرة السياسية والاقتصادية على المستعمرات، وتأسيس سلطة سياسية رسمية من جانب الدول الكبرى، تخضع المستعمرات لها، ولنمط حياتها. وغني عن القول إن هذه الظاهرة قديمة قدم التاريخ، ونشوء إمبراطوريات استعمارية منذ العصور القديمة، وأنها استمرت حتى تشييد الإمبراطوريات الجديدة في العصر الحديث.
ويعود استخدام المصطلح إلى ستينيات القرن التاسع عشر.. بالإشارة إلى الطموحات العسكرية والسياسية لنابليون الثالث في فرنسا، ثم استخدم لوصف تنافس القوى العظمى بشكل عام؛ بما في ذلك المنافسة العسكرية والسيطرة على المستعمرات في أفريقيا وآسيا. وقد اضطرد استخدام المصطلح في الوقت الحالي، بحيث يكاد يقتصر على الإشارة إلى الهيمنة الاستعمارية.. التي تمارسها الدول الأكثر تقدماً، ومن هنا أصبح مرادفاً للاستعمار؛ فهذه النزعة الإمبريالية تتحقق بوسيلة الاستعمار؛ سواء بالقوة أو فرض الحماية، أو بالعلاقات السياسية والاقتصادية.. من خلال المعاهدات والاتفاقيات.
أما مصطلح «الاستشراق»، فإنه يستدعي على الفور كتاب إدوارد سعيد الشهير.. عن الاستشراق (1978)، الذي يلخص معناه العنوان الفرعي للكتاب.. وهو «المفاهيم الغربية للشرق». ويمكن لنا – كقراء – أن نضع تفسيرات وتوضيحات، تنصب كلها حول موضوع الاهتمام الغربي بدراسة الشرق وفهمه، والتعامل معه. ذلك الاهتمام تزايد على نحو كبير.. منذ نهاية القرن الثامن عشر، مع بدايات الاختراق الإنجليزي-الفرنسي للشرق العربي، الذي تُعزى إليه أهمية كبيرة في تطور «الاستشراق»؛ حين أصبح لدى أوروبا المسيحية أسباب تجبرها على الاهتمام بلغات وثقافة الشرق الأوسط.. إلى جانب الجاذبية الواضحة لحضارة أقدم وأكثر ثراءً، وربما الخطر الأكثر وضوحاً لعدو قوي غاز، ومن هنا كان هناك نداء الدين.. بالنسبة لمسيحي يوجد «قلب» دينه في «الأماكن المقدسة» The Holy Land، تحت حكم المسلمين منذ القرن السابع الميلادي، فكتابه المقدس وعقيدته.. معظمها مكتوب بلغات الشرق الأوسط.
نقلاً عن «الأهرام»