Times of Egypt

حتمية سقوط الدولة الثيوقراطية!

M.Adam
أكرم السيسي 

أكرم السيسي 

تتنوع نُظم الحكم بين ثلاثة أنواع؛ الأول: ديمقراطي أي حكم الشعب للشعب، وفيه تكون المرجعية للقانون الوضعي، وبه فصل بين الدين والدولة (حكم علماني وليس بالضرورة معادياً للدين). والثاني: حكم ديكتاتوري، ويكون الحكم فيه للفرد، دون أي تمثيل للشعب.. كالمجالس النيابية، ودون فصل بين السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية). والثالث: حكم ديني، تكون مرجعيته لعقيدة ولنصوص دينية جامدة، لا تقبل سوى تفاسير رجال الدين، مع العلم بأن الدين الإسلامي.. يُعتبر الدين الوحيد، الذي لا يوجد فيه رجال دين لتفسير نصوصه، لكن فيه «علماء» للتفسير، أي «مجتهدون» (يصيبون ويخطئون)، ولا يُشترط أن يكون هؤلاء العلماء من معتقدي الدين الإسلامي، فلقد أسهم بعض المستشرقين في كثير من التفاسير.. التي أفادت المسلمين كثيراً، وأضافت الكثير أيضاً للعقيدة وللحضارة الإسلامية!

يطلق على النوع الثالث «الحكم الثيوقراطي «(Theocrat)؛ أي أن يكون الحاكم إما رجل دين – كما هو الحال في المذهب الشيعي – ويسمى حكم الموالي (الولي الفقيه) مثل حزب الله. وفي السنة.. كما في أفغانستان. أو أن يكون رجلاً مدنياً لكن تابعاً لهيئة دينية – تراجع كل قراراته – مثل المرشد في الجماعات الدينية. أو نظام ديمقراطي، ولكن مهيمناً عليه رجل دين.. كسلطة هي الأعلى في البلاد (المرشد الأعلى) – فيفقد ديمقراطيته – كما الحال في نظام الحكم بجمهورية إيران الإسلامية.

تدَّعي إسرائيل بأنها دولة علمانية، إلا أن الحقيقة عكس ذلك. وادعاؤها هذا يعود لازدواجية المعايير لديها، ولخطابها المراوغ والمنافق، فهي تداعب به الغرب.. معتبرة نفسها بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، إلا أن اعتداءها الأخير على إيران فضحها، وكشف عن أنها ليست علمانية – كما تدَّعي – أو مبنية على قوانين وضعية مثل كل الدول الديمقراطية، وبالتالي تحترم القانون الدولي، ولكنها دولة تُسخر أحدث العلوم لمصلحة دولتها الدينية العنصرية، حيث مرجعية قراراتها نابعة من نصوص لاهوتية، وأكبر ما يدل على ذلك، أولاً: سعيها الدؤوب لأن تكون دولة «يهودية» خالصة، أي أن كل مواطنيها معتنقون للديانة اليهودية فقط، وثانياً: اتخاذها شعاراً دينياً في عدوانها على إيران: «الأسد» الصاعد!  

تصف التوراة – في سفر العدد، الإصحاح 23، الفقرة 24 – الشعب اليهودي بالتالي: «هو ذا شعب يقوم كلبوة، ويرتفع كأسد، لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى»، بهذه الفقرة التوراتية رسم بنيامين نتنياهو – رئيس الوزراء الإسرائيلي – منهجه وهدفه، ووضع هذه الفقرة على حائط البراق.. قبل الهجوم على إيران، وتُعد هذه محاولة منه للبحث عن ترخيص ديني.. لما أسماه بالضربات الوقائية، التي قام بها ضد إيران. وتُعتبر هذه الفقرة جزءاً من نبوءة أحد أنبيائهم «بلعام بن بعور».. الذي استأجره بلاق ملك موآب لكي يلعن بني إسرائيل، لكن بتدخل إلهي (!) لم يستطع بلعام أن يلعنهم، بل نطق ببركات عليهم.. بأمر من الإله يهوه رب اليهود!

 هكذا يحاول الخطاب الصهيوني – المراوغ والمنافق – خلط الدين بالسياسة – أحد أهم أركان الدولة الدينية – وذلك للبحث عن ترخيص ديني، يبرر به الحرب الاستباقية.. التي شنها دون أي وجه حق ضد إيران. وللحقيقة، فإن هذا التوظيف لبعض فقرات من التوراة – كعادة الدولة الدينية – يُعد تحريفاً سياسياً للنصوص الدينية، واستغلالاً لنصوص مقدسة.. نزلت في سياق معين، لتبرير العنف والحروب، وهو يمثل أيضاً نوعاً من «الاستعلاء الديني القومي»، الذي يربط بين التوراة.. والكيان الصهيوني المصنوع، هكذا يعترف نتنياهو وحاخاماته بأن الحرب ضد غزة وإيران ليست عسكرية، بل فريضة دينية.. تبشر بمجيء المسيح اليهودي، وإقامة الهيكل الثالث!

والفقرة التوراتية – سابقة الذكر – مليئة بالاستعارات المكنية، فالمقصود بـ «ذا شعب».. أبناء إسرائيل، الذي يشبهه النص التوراتي بـ«اللبؤة» (أنثى الأسد) التي ترمز إلى قوة اليقظة والاستعداد للصيد، وهى كناية عن أن بني إسرائيل نهضوا بشجاعة وعزيمة قوية، ثم ارتفعوا كـ«الأسد» الذي يرمز للهيبة والقوة الملكية، والمعنى هنا أن بني إسرائيل يعلون ويترفَّعون على أعدائهم.. دون خوف، كما ينهض الأسد من مرقده استعداداً للهجوم، ولا ينام حتى يأكل فريسته ويشرب دم قتلاه!

 الصورة البلاغية قوية جداً ومخيفة، فالتشبيهات بالحيوانات المتوحشة.. تعبير عن القوة العسكرية والبطش بالأعداء، وهذا ما يحدث الآن في غزة وإيران، فالكيان الصهيوني لا يهدأ، ولا يستريح حتى يحقق النصر الكامل.. الذي لا يتحقق إلا عندما يلتهم فريسته (غزة وإيران)، وعندما يشرب دم القتلى.. كناية عن تحقيق النصر التام، عن طريق الإبادة الجماعية، هذه – بلا شك – مواصفات كيان مريض بـ«السادية»، لا يهدأ باله إلا برؤية الدم!

هكذا يوظف نتنياهو وحاخاماته هذه الفقرة – وغيرها – ليوهم أعداء الكيان الصهيوني.. بأنهم أمة لا تُقهر، يتحركون بقوة اللبؤة، ويعلون كهيبة الأسد، لا يهدأ لهم بال حتى يحققوا النصر التام.. بالإبادة الجماعية للآخر، كما جاءت على لسان نبيهم «بلعام بن بعور» الذي كان يراد له أن يلعنهم، لكنه باركهم! هذا هو تفسير أحبار اليهود لهذه الفقرة، فقوة بني إسرائيل تأتي من عند إلههم يهوه؛ الذي يصورونه في توراتهم بأنه رب الجنود وإله الحروب، ويفسرون اللبؤة والأسد بالاستعداد الروحي والحربي، فاللبؤة تقوم في الصباح الباكر كما يقوم بني إسرائيل للصلاة والطهارة (ولهذا كان الهجوم الإسرائيلي على إيران في الفجر)؛ وأما الأسد فيرمز إلى هيبتهم في الحرب! (وللأمانة العلمية، فقد استعنا في تحليلاتنا هذه بتويتة نشرها على صفحته بالفيسبوك الدكتور سعيد عطية، أستاذ مقارنة الأديان بقسم اللغة العبرية.. بكلية اللغات والترجمة بجامعة الأزهر).

وأما في السردية الإسلامية – التي تنزه الأنبياء عن القتل والعنف، إلا في حالة الدفاع عن النفس، وبشروط واضحة تحمي المدنيين والنساء والأطفال والشيوخ، وتدين الإبادة الجماعية – فقد أشار القرآن الكريم لقصة بلعام بن بعور في سورة الأعراف بقوله: «وَٱتۡلُ عَلَيۡهِمۡ نَبَأَ ٱلَّذِيٓ ءَاتَيۡنَٰهُ ءَايَٰتِنَا فَٱنسَلَخَ مِنۡهَا فَأَتۡبَعَهُ ٱلشَّيۡطَٰنُ فَكَانَ مِنَ ٱلۡغَاوِينَ. وَلَوۡ شِئۡنَا لَرَفَعۡنَٰهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُۥٓ أَخۡلَدَ إِلَى ٱلۡأَرۡضِ وَٱتَّبَعَ هَوَىٰهُۚ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ ٱلۡكَلۡبِ إِن تَحۡمِلۡ عَلَيۡهِ يَلۡهَثۡ أَوۡ تَتۡرُكۡهُ يَلۡهَثۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِـَٔايَٰتِنَاۚ فَٱقۡصُصِ ٱلۡقَصَصَ لَعَلَّهُمۡ يَتَفَكَّرُون» (175/176) . 

تتناول الآيتان قصة رجل – وليس نبيًا – آتاه اللّٰه آياته، ولكنه ابتعد عنها، وأتبعَ الشيطان.. الذي قاده إلى الضلال، ولو أنه اتبع هداية اللّٰه وآياته لأصلح بهما دنياه وآخرته، وقد شبّه اللّٰه هذا الرجل – الذي ضلّ – بالكلب الذي إن طاردته يجري ويلهث، وإن تركته.. يجري أيضاً ويلهث، فهو لا يميز بين من ينفعه ومن يضره! 

من المعروف أن الحروب تقوم بين دول متجاورة، يكون الصراع بينهما على مصالح اقتصادية أو نزاع على أراضٍ، ولكن المسافة الجغرافية بين إسرائيل وإيران كبيرة جداً تتعدى دولاً كثيرة، وعليه نستطيع أن نجزم بأن الحرب الدائرة الآن بين إسرائيل وإيران هي حرب بين دولتين دينيتين، كلاهما يريد تدمير الآخر، مع العلم بأن إسرائيل هي الدولة المعتدية، ومع الأخذ في الاعتبار بأن مكونات كل دولة مختلفة عن الأخرى، فإسرائيل على رأس سلطتها شخص علماني، ولكنه يسعى لتحقيق أهداف استعمارية (في فلسطين وغزة) تتمثل في التهام فريستهم، وشرب دماء قتلى الفلسطينيين؛ مثل اللبؤة والأسد في قصتهم التوراتية.

 وفي المقابل، النظام الإيراني على رأسه رجل دين يسعى لتحقيق أهداف سياسية وهى نشر المذهب الشيعي في محيط الدول الخليجية المجاورة: هدف سياسي توسعي أيضاً، الحرب إذن بينهما حرب استعمارية توسعية في المقام الأول، لكنها بخطابات دينية! 

هذه الحرب ستنتهي حتماً يوماً ما، ونتائجها من المؤكد ستكون كارثية ليس على البلدين فقط، ولكن من المؤكد أنها ستصيب دولاً كثيرة مجاورة لكل منهما، خاصة إذا استطاع أحدهما تدمير أي مفاعل أو قاعدة نووية، فالإشعاع النووي سيتناثر في أجواء كثيرة وبعيدة، ولمدد زمنية طويلة، ولهذا نقول بكل ثقة أنه حتى إذا انتصرت إحداهما على الآخر، فالآخر سيتضرر حتماً بأضرار كارثية، وسيأخذ بلاده لنفس المصير الكارثي للمنهزم، فلن ينجو أحد من البلدين ولا من بلاد الجوار، فهذه – مهما طال الزمن – نهاية كل دولة ثيوقراطية: «السقوط المدوي»، وعلاماته ظهرت بوضوح، فبعد أسبوع واحد من بداية الحرب، تنازل المرشد الأعلى الإيراني عن سلطاته وأوكلها للمجلس العسكري الأعلى الثوري، وكذلك إسرائيل تعلن إفلاسها وعدم قدرتها على المواصلة، وعدم تحقيق أغراضها بمفردها في إيران، فيتدخل ترامب رئيس الولايات المتحدة بقواته مباشرة لإنقاذها، وهذا يُعد – من وجهة نظرنا – سقوطاً واضحاً للدولتين الثيوقراطيتين: إيران وإسرائيل!

 وتؤكد تجارب التاريخ الطويل – في كل العصور، وفي كل الحضارات – حتمية سقوط الدولة الثيوقراطية، وآخر هذه التجارب في عصرنا الحديث سقوط نظام الإخوان في السودان بقيادة عمر البشير في 11 أبريل 2019، ومن قبلها سقوط نظام الإخوان أيضاً في مصر في 30 يونيو 2013، والذي لولا جيش مصر لأصبحنا فرقاً وشيعاً متحاربة مثلما حدث في السودان وفي غيرها! 

* أستاذ متفرغ بكلية اللغات والترجمة (قسم اللغة الفرنسية) – جامعة الأزهر.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة