زاهي حواس
لا يمكن – بأي حال من الأحوال – معرفة الآلية.. التي استطاع الفراعنة من خلالها اكتشاف مناجم الفيروز.. في شبه جزيرة سيناء؛ وخاصة الموجودة في منطقة سيرابيط الخادم.. التي تقع في الجنوب الغربي من شبه الجزيرة، على مسافة حوالي 60 كيلومتراً إلى الشرق من أبو زنيمة.
ويكفي أن يعرف القارئ أن الوصول إلى تلك المنطقة.. يحتاج إلى دليل يعرف دروب الصحراء. وبمجرد الوصول إلى سيرابيط الخادم، تفاجأ بوجود مظاهر حياة قديمة.. تعود إلى زمن الأجداد الفراعنة؛ لوحات حجرية منقوشة بنصوص تذكارية، وبقايا أطلال معابد ومقاصير دينية، وكتابات هيروغليفية، وأخرى تعرف بـ «السينائية».. أو ما قبل السينائية.
الغريب، أن الصمت الذي يحيط بالمكان.. ليس كصمت الصحراء، ولكنه صمت له مهابةٌ وإجلالٌ عظيم، تكاد تسمع فيه صخب عمال المناجم القدماء، وهم يستخرجون ذلك الحجر الكريم.. المعروف باسم «التِّركواز» أو الفيروز. هذا الحجر – الحساس لضوء الشمس – تكبَّد أجدادنا الفراعنة.. ما لا يمكن وصفه من الصعاب والمشاق، لتوفيره لصانعي الحلي وأدوات الزينة والتمائم. ولا تكاد قلادةٌ عظيمةٌ أو أسورةٌ أو خاتمٌ أو قناعٌ جنائزيٌ بديعٌ.. يخلو من التركواز. صنع الصائغ المصري القديم ملايين القطع من الحلي، باستخدام الذهب والتركواز.. بجانب أحجار كريمة أخرى.
صحيح أن أقدم الأدلة الأثرية، تشير إلى وجود أنشطة تعدينية.. في سيرابيط الخادم، منذ عصر الملك سنوسرت الأول (1971-1926 قبل الميلاد) – ثاني ملوك الأسرة الثانية عشرة، من الدولة الوسطى – لكن من المحتمل، أن يكون الفراعنة وصلوا إلى سيرابيط الخادم.. قبل ذلك بكثير، حيث لا تزال المنطقة تحتاج إلى الكثير من أعمال البحث العلمي. يجرنا هذا إلى سؤال مهم، وهو من الذي عمل في العصر الحديث في سيرابيط الخادم؟ وماذا تم الكشف عنه؟
فيما بين عامي 1904-1905، كشف فلندرز بيتري عن النقوش السينائية.. المنحدرة من الهيروغليفية، وقدر تاريخها بـعام 1500 قبل الميلاد.
كان ذلك ضمن محاولة العالم الإنجليزي.. البحث عن آثار خروج اليهود من مصر – مع موسى عليه السلام – وقد ختم بيتري حياته (التي امتدت إلى 89 عاماً) في القدس.. حيث مات هناك، ودُفن في مقابر جبل صهيون.. حسب وصيته، وكان سبب الوفاة الملاريا.
ولعل ثاني أعمال الكشف الأثري، كان من بعثة لجامعة هارفارد سنة 1935.. قامت خلالها بأعمال التوثيق الأثري للنقوش والفخار، المنتشر في ذلك الوقت بسيرابيط الخادم. ومرةً أخرى كانت أهداف الرحلة هو تغذية ما يُعرف بـ «متحف الساميات» بجامعة هارفارد. وفيما بين عامي 1968 – 1978 نشطت أعمال النهب الإسرائيلية.. التي قامت بتجريف الموقع، مثل مواقع أخرى كثيرة في سيناء (المحتلة في ذلك الوقت).. بحثاً عن أي آثار لهم في سيناء دون جدوى. يحبون دائماً وصف ما قاموا به، بأنها كانت أعمال بحث علمية.. وهي لم تكن كذلك على الإطلاق؛ بدليل أن جيش الاحتلال.. كان هو من يمد من يدعون بأنهم علماء آثار.. بالمعدات والجنود، لمساعدتهم في الحفر. ونُقلت آلاف القطع الأثرية من سيناء إلى فلسطين المحتلة، ولم يتم نشرها علمياً بالطبع.. للتغطية على الجرائم التي ارتكبوها، في حق التراث المصري في سيناء.
بدأ بناء معبد للإلهة حتحور – التي كان من ضمن ألقابها «سيدة الفيروز» – في بداية عصر الأسرة الثانية عشرة من الدولة الوسطى، واستمرت الإضافات تجري على المعبد.. حتى عصر الدولة الحديثة. يقع المعبد على قمة جبل سيرابيط.. على ارتفاع أكثر من ألف متر فوق مستوى سطح البحر، والمعبد محاط بعشرات المغارات – التي حفرها الفراعنة لاستخراج الفيروز – ويحتاج تسلق الجبل، والوصول إلى المعبد.. حوالي ثلاث ساعات كاملة، وسط طبيعة موحشة.. تتخللها الوديان الصحراوية.
يصل طول المعبد إلى 80 متراً، وعرضه حوالي 40 متراً، وصالة الأعمدة الرئيسية نحتت تيجان أعمدتها الحجرية.. على شكل رأس البقرة حتحور.. ربة المعبد. أما عن سبب وجود حتحور بالذات.. في هذا المكان، دون غيرها من الإلهات؟ فربما لأنها كانت من ربات الحماية، فكان يُعتقد أنها تحمي عمال المناجم – خاصةً في تلك الصحراء التي لا تعيش فيها الأبقار – فكان اختيار حتحور.. لأنها رمز للوفرة والخير والنماء.
كذلك فإن اسم حتحور.. يعني «ملاذ حورس» أو «بيت حورس»، إشارة إلى دورها كأم بديلة.. للطفل الرضيع حورس؛ الذي عهدت به أمه إيزيس إلى حتحور.. لرعايته، إمعاناً في إخفائه عن عمه (وقاتل أبيه) ست.. إله الشر.
عندما كنت أميناً عاماً للمجلس الأعلى للآثار، قمت بتنفيذ مشروع تطوير عملاق.. لم يتكلف وقتها سوى 14 مليون جنيه مصري، تم إنفاقها على البنية التحتية، وإنشاء مركز للزوار، وترميم مسارات الصعود الآمنة.. لتسهيل الوصول إلى المعبد، وبناء مقر دائم لإدارة الموقع، وحرس الآثار، ونقل ستة تماثيل ضخمة.. إلى متحف شرم الشيخ، لعرضها وحمايتها.. بعد تعرُّض تمثال لحتحور لمحاولة سرقة فاشلة.
أعتقد أنه حان الوقت الآن، للإعلان عن جاهزية سيرابيط الخادم للافتتاح.. كمزار سياحي رسمي، ومحمية من المجلس الأعلى للآثار. نحتاج الآن تكثيف كل جهودنا.. للنهوض بآثار سيناء ومواقعها الأثرية، ووضعها على خريطة السياحة.. رغم كل الظروف الصعبة التي تعيشها المنطقة، لكن حتماً.. سنسير إلى الضوء، الذي يلوح في نهاية النفق المظلم.
نقلاً عن «المصري اليوم»