Times of Egypt

حاسة سَمَع

M.Adam
نيفين مسعد

نيفين مسعد..
أرسل لي أحد الشباب.. ممن درسوا معي في مرحلة الدراسات العليا، يطلب مني طلباً لم يسبق أن تلقيت مثله من قبل، أراد الشاب أن أرسل له على الواتساب.. بعض المواد الصوتية، الخاصة بالموضوعات التي يمتحن فيها عادةً.. المتقدمون للالتحاق بالسلك الدبلوماسي، وبرَّر طلبه.. بأنه شخص لا يحب القراءة، لكنه يجيد السمع، وقادر على الاحتفاظ بالمعلومات التي يسمعها.. بعد أن يقوم بإعادتها عدَّة مرَّات.
فاجأني هذا الطلب الفريد، فكثيراً ما تواصَل معي بعض طلابي السابقين.. المُقدمين على اختبارات الخارجية، لمناقشة نقاط محدَّدة في المواد العلمية.. التي قرأوها، ويريدون تعميقها، أو طلب الرأي فيها. ومن المعتاد أيضاً، أن نتشاور في جلسات ودودة.. حول ما يمكن وصفه بمدوَّنة السلوك، عند المثول أمام لجنة الامتحان الشفوي: الزي المناسب، هدوء الأعصاب، التركيز، سرعة البديهة، توقُّع غير المتوقَّع… إلخ. وعندما كان يتم إعلان النتائج، وأجد أسماء طلابي في قائمة المقبولين.. أشعر كأنني أنا التي نجحت، وأخلع فوراً على الناجحين.. لقب سعادة السفير، أو سعادة السفيرة. فتتسع ابتساماتهم الممتنة، وتأخذني معها وتطير.


أفتح قوسين لأقول.. إن هذه ليست مبالغة، فأنا أحب طلابي، وأحب مهنة التدريس.. لأن فيها خبرة وغرساً وتواصُلاً، وعلاقة إنسانية، ولأنها تُجدِّد شباب القلب والعقل معاً.
إذن دردشة ما قبل اختبارات الخارجية.. مسألة متكرِّرة، تحدث معي – كما تحدث مع كل أساتذتي وزملائي – وهي جزء من مسؤوليتنا التربوية، لكن الجديد.. هو طلب المادة مسموعة على الواتساب، اعتذرت للشاب بلطف.. لأنني لن أستطيع الاستجابة لطلبه، ونصحته بأن يضغط على نفسه ويقرأ، فوعدني بذلك.


مرَّت عدة أسابيع.. نسيتُ فيها الموضوع، إلى أن عاد الشاب يراسلني مرةً أخرى، ويطلب مني طلباً ثانياً.. لا يقل غرابةً عن طلبه الأول، ولعله أغرب. قال الشاب.. إنه قرأ بعض المقالات، عن أبرز تطورات المنطقة والعالم، وإنه يريد مني المزيد من الإضافات.. من خلال رسائل مسجَّلة على الواتساب. ممممم إذن مللتَ أنت القراءة بسرعة يا ابني العزيز، وقنعتَ من الغنيمة بالإياب، ومصمِّم أنت على تشغيل حاسة السمع لديك بأقصى طاقتها، فالأرجح أن هذه الرسائل المسجَّلة سوف تصحبك وأنت تمارس حياتك اليومية، وتزاول تمريناتك الرياضية، لكن سامحني.. إن وجدتَ أني أخذلك للمرة الثانية، أخذلك لأني أعتبر أن رسائل الواتساب المسموعة، هي بالضرورة.. رسائل قصيرة ومركَّزة، تؤدي غرضاً محدداً؛ فلا هي تصلح للشرح والتحليل، ولا هي تهتم بالتفاصيل.. التي فيها تلبد شياطين كثيرة؛ ومن هذه الرسائل المسموعة، قد تلتقط أذناك بعض المعلومات المحرَّفة.. لعيب في مخارج ألفاظي، أو لخلل في استقبالك، أو لجلبة في خلفية التسجيل، وليس أكثر ضجيجاً من حياتنا.


قد سبق لي أن كتبت، كيف تحوَّر اسم حزب الله إلى حسَب الله.. عندما وصل هكذا إلى سمع أحد الشباب، فإذا به يكتب عن تهديدات حسَب الله لمستوطنات شمال إسرائيل!! وبالتالي، إن كان حزب الله قد حوَّلته الأذن إلى حسَب الله، فما بالنا بالمصطلحات المعقَّدة في القانون الدولي، واتفاقياته المنظمة للعلاقات الدولية.. في امتحانات الخارجية؟ أعرف أيضاً أن المتقدمين يؤدون عادةً.. اختبارات في اللغة الأجنبية الأولى والثانية. ومن موقعي هذا، أحب أن أتوجَّه بالشكر الجزيل إلى الابن العزيز.. الذي راسلني على حُسن ظنِّه في إمكانياتي اللغوية، وقدراتي على التحدُّث بسبعة ألسن. أما السبب الأساسي لاعتذاري عن عدم تسجيل المادة العلمية، فهو أنه في مهنة.. كمهنة الخارجية، يتعامل الدبلوماسي من أول درجة في السلَّم الوظيفي، وحتى بلوغه سنَّ التقاعد.. مع تقارير يرسلها، وتقارير يستقبلها؛ أي أن موظف الخارجية «حايقرا حايقرا مافيش شك»، ولن تنفعه حاسة السمع وحدها.. حتى وإن كان يسمع دبَّة النملة.


لأول وهلة تبدو حالة الابن العزيز.. مجرد حالة فردية، لكنني أريد أن أضعها في سياق أوسع، يتجاوزها.. إلى ما يمكن وصفه بحالة شبابية منتشرة؛ فقطاع لا بأس به من شباب هذه الأيام.. يميل إلى الحصول على المعلومات السهلة، التي لا يتعبون في الجري وراءها، ولا يهتمون بتدقيق مصادرها، ولا يضعونها في سياقها. ولا يفتشون في خلفيات أصحابها وانحيازاتهم الفكرية.. ليعرفوا لون المعلومة؛ فكل معلومة.. ولها لونها. صارت المعلومة السريعة.. كالوجبة السريعة، كالأغنية السريعة، كالقيادة السريعة، كالعلاقة الزوجية السريعة.. سمة من سمات العصر. وتكفَّلت تقنيات الشات.. چي بي تي، والديب سيك.. ليس فقط بتقديم المعلومات السريعة، لكن كذلك بنَظْم تلك المعلومات.. في بناء بحثي متكامل، وتلك قصة أخرى تحتاج إلى مقال منفصل.. عن مستقبل الإبداع في ظل الثورة التكنولوجية. لكن المهم هو أن المعلومات السريعة، قد تكون غير مخدومة أو مضللة أو انتقائية.
ثم إن ما يأتي بسرعة، يذهب بسرعة. عشنا سنين طويلة، نحفر في الصخر.. حتى نستخرج المعلومات التي صرنا بها دكاترة في جامعاتنا. ومازلت – بعد أربعين عاماً – أذكر زياراتي المكوكية لمكتبة الجامعة الأمريكية الممتازة.. لأقرأ لساعات طويلة، وأدوِّن ما يعجبني.. توفيراً لثمن تصوير المستندات. أشعر بالإجهاد، فأتوقَّف لنصف ساعة.. أتناول خلالها ساندويتشاً خفيفاً من الكافيتريا، ثم أواصل القراءة والتدوين.. لأعود في المساء، وأنا لا أكاد أرى أمامي.. بالمعنى الحرفي للكلمة.


يا أيها الابن العزيز.. أنت ومَن تمثلهم من الشباب.. الجهد له طعم؛ كطعم السكر في الفم.. حلو جداً، واستعجال النجاح، أو استسهال النجاح.. بمعنى أدق، قد يصل بك إلى هدفك في وقت أقصر، لكنه أبداً لن يترك في فمك طعم السكر، وأتفهَّم أن فينا مَن لا يستسيغون طعم السكر.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة