جميل مطر
سبقني الشاعر فقال: «وأتيت مرآتي وعطري في يدي.. فبصرت ما لا كنت فيها أبصر»، أنا أيضاً أتيت مرآة ولا عطر في يدي، ولكن في يدي صور لي.. وأنا في مراحل عمري المختلفة، قلبت في الصور.. واحدة بعد الأخرى وعدت إلى المرآة، وبالفعل بصرت ما لا كنت فيها أبصر.
ابتعدت مع المرآة عن الصور القديمة، وجلسنا نتأمل معا فيما وراء أو في داخل هذا الشخص.. الظاهر في تلك الصور، ونتساءل: هل تغير عبر السنين الطوال ما بداخل صاحبها، أقصد ما بعقله وقلبه، وهل كان التغير بحجم وكثافة ما تغير في الخارج أي في جسده وفي طلته وابتسامته؟.
***
بعد إلحاح، سمحت بأن نجرِّب حظنا مع ما فشل فيه آخرون. كثيراً ما سمعت أن الغوص في داخلي.. لم يثمر شيئاً للغوَّاصات والغوَّاصين، ولغيرهم.. ممن حاولوا «النكش» في الماضي، على أمل أن يعثروا على مفاتيح هذه الشخصية، أو واحد منها على الأقل. التجربة – في حد ذاتها، وإن غير مضمونة النتائج – لا شك مثيرة ومنعشة، وربما ضرورية لي، ولكل من اقتحم بنجاح.. حدود الحال في السن المتقدمة.
عدنا فحددنا أبعاد السؤال.. حتى صار أسئلة متعددة، منها على سبيل المثال: «هل يتقدم الإنسان في العمر، ليصبح إنساناً آخر.. بمواصفات مختلفة في داخله، كما في مظهره الخارجي؟» هل تبدلت خصائص العقل.. بنفس درجة التبدل في عضلات الجسد واتساقاتها، وفي أنماط حركته. نتساءل، إن صح أن خصائص في العقل تبدلت، فهل تأثرت – بنفس القدر – أحكامنا التي نصدرها على الأشياء والأشخاص، وبخاصة على سلوك أقراني من البشر؟
***
لا شك أن مرحلة معينة في عمر الإنسان خلفت.. أكثر من غيرها، آثاراً في شكل وشخصية الإنسان المتقدم في العمر، لا شك أيضاً أن علاقة معينة، أو شخصية معينة، في مرحلة معينة.. لعبت دوراً أكبر – وأهم من غيرها – في تشكيل «إنساننا» المسن. أعتقد أيضاً أن كل ما شيدنا وبنينا في حياتنا، وكل ما خربنا ودمرنا فيها.. لا يتركنا نذهب بدون حساب، إلى حال سبيلنا.. عند تقدمنا في العمر. أخمن أنه يرافقنا.. حتى آخر يوم، وآخر نفس. قلت في مناسبات سابقة.. إن أغلب المسنين لا يبالون بما أنجزوا – أو خربوا – في شبابهم، أو خلال منتصف العمر.
تأكدت بعدها.. من حقيقة أن بعض سلوكياتهم سوف تعكس – بدون شك، بين الحين والآخر – شعوراً بالرضا وراحة البال وسلام الضمير، أو شعوراً بالتعاسة والغضب المكتوم حيناً، والهادر أحياناً أخرى؛ كل حسب قدر ما دمرت، أو شيدت.. من مصادر للخير أو للشر.
***
بالمناسبة يعرف كل من صار في مثل عمرنا.. صعوبة إنكار حقيقة أنه اختار في مرحلة أو أكثر.. الشر.. طريقاً وأسلوباً وعقيدة. إن هو أنكر، فسوف يطارده الشر.. مطالباً باستخدام نفوذ المتقدم في العمر؛ سواء أخذ هذا التقدم شكل الشيخوخة أو التدين المفاجئ والجارف، أو أخذ شكل الاستغراق في مجون الفساد.. لزيادة مساحة ما يحتل، أو شكل المصاب بالنرجسية المفرطة. نادراً ما كنا شهوداً على ماجن أو شرير، عاش نهاية عمره.. بضمير مرتاح، وقلب ينبض بحب، أياً كان نوع هذا الحب.
أتابع – بكثير من الشغف – الجدل الدائر.. أحياناً بحياء، وأحياناً برهبة.. حول الاستعداد للمستقبل، في مجتمعات تزيد فيها نسبة المسنين بمعدلات متزايدة الارتفاع.. بمرور الوقت. هذا الواقع يدفع المهتمين بقضية التنمية – اقتصاديين كانوا أم سياسيين – إلى دائرة المتشائمين الجدد. وما أكثرهم هذه الأيام. هؤلاء لا يختلفون كثيراً عن أنصار قاعدة كلاسيكية – منتشرة في أعماق الثقافة الشعبية، وبخاصة في مناطق شرق أقصى.. كما في مناطق شرق أدنى العالم، حيث يسود الإيمان بالقدر المحتوم – والقدر بهذا المعنى هو المستقبل، وحيث يؤمن الناس بأن «القدر وحش مفترس.. يتربص بنا«.
نقابل كثيرين، ونقرأ لكثيرين غيرهم، لا ينتظرون من المستقبل أي خير. دليلهم هو أن المستقبل لم يأتِ في أي عصر.. إلا مبتزاً ومهدداً. يأتي بزيادات متتالية في نسبة كبار السن في المجتمع. هؤلاء يستهلكون ولا ينتجون. وبدائلهم – أقصد الشباب – وهم المنتجون، لا يزيدون بنسب مناسبة.
***
أختلف مع هؤلاء المتشائمين.. من الأقدمين ومن المعاصرين. أختلف مع أي محاولة لبث ونشر الزعم.. بأن المستقبل – كتوأمه القدر – شرير، ولا يحمل للبشرية إلا سوء المصير. أختلف مع كل فكرة.. تروج لعالم من حضارات تنحدر وتختفي، وأتفق مع كل فكرة.. تروج بنفس القدر لعالم من حضارات تنشأ وتصعد، وتسهم في صنع قواعد وأخلاقيات دائمة التطور والتحسن، قبل أن يأتي جيل من المرفهين ينهكها ويفسدها.
وما المسنون – في رأيي – إلا الحلقة الأساس.. في كل رواية سمعناها أو قرأناها، تروي لنا تفاصيل انتقال، أو نهوض، أو انحدار.. حضارة أو أخرى.
نقلاً عن «الشروق«
