Times of Egypt

جمال البنا.. النقابي والكاتب الإسلامي الذي قتلته مكتبته (6-6)

M.Adam
عمار علي حسن

عمار علي حسن

لم يغلق جمال البنا تصوره عن «الإحياء الإسلامي» على نفسه، إنما – ومن منطلق إيمانه بأنه «المعرفة بحر لا ساحل له» – يقول: «دعوة الإحياء الإسلامي ترحب بالإضافات من كل واحد يقدر عليها، ما دامت هذه الإضافة متفقة مع روح الدعوة، وكل واحد يؤمن بها.. يصبح صاحبها، لأنها ليست تنظيماً له مراتب وضبط وربط، ولكنها تيار متدفق، وحركة فكرية.. مفتوحة أمام كل من يجعل الشأن الإسلامي همّاً من همومه، وشغلاً لفكره، وقد ينتقد فلا نضيق به؛ بل نشكره ما ظل نقده يمثل إضافة، وقد يزيد فنعترف له بفضله».

يعتبر البنا أن هذه الدعوة.. هي «نهاية عمر مفكر.. جعل الإسلام همّه، ونصب عينه منذ أكثر من خمسين عاماً. واعتزل الناس والمناصب والشهرة والحياة في هذا السبيل»، ولا يريد لها أن تكون في أي يوم جماعة أو تنظيماً، ولا مؤسسة؛ حتى لا تُصاب بداء أُصيبت به كل هذه، أو أن يكون لها مصلحة على حساب فكرتها، وهي إن اضطرت ستكون مؤسسة مفتوحة الأبواب.

قبل أن يداهمه المرض الأخير، زرته في شقته الفقيرة ومكتبته الثرية، فوجدته ملهوفاً يبحث عن أحد يوفر له مكاناً يحوي كل هذه الكتب، حتى تنفع الناس. اقترح عليَّ يومها أن أتولى الأمر، وأكون على رأس لجنة يشكلها بخصوص المكتبة، لكني تحسّبت مما قد يُثار بعد وفاته.. من أهله، ولا أريد لأحد أن يتقول عليَّ، فشرحت له موقفي، واعتذر لي، وتفهم ما أنا فيه.

كنت أعرف أن بها كتباً قديمة تآكلت، فاقترحت عليه الاستعانة بمؤسسة «جمعة الماجد» في دبي، فهي معنية بترميم الكتب، وتواصل معهم، وأرسلوا إليه تذكرة سفر وتأشيرة دخول، وجهزوا له عقداً بمبلغ لا يُستهان به، لكنه حين قرأ بنداً.. ينص بموافقته على نقل المكتبة إلى دبي، اعتذر لهم في هدوء، وعاد إلى حيرته حول مصير مكتبته. تواصلت بعدها مع الأستاذ محمد أبو المجد – مسؤول النشر في الهيئة العامة لقصور الثقافة – فقال لي إننا يمكن أن نخصص لها مكاناً، لكن تعقيدات بيروقراطية حالت دون إتمام هذا. وأبدى المهندس صلاح دياب استعداده ليخصص لها غرفة في جريدة «المصري اليوم» – التي يملكها – لكن غرفة واحدة لم تكن تسع كل هذه الكتب.

مات البنا.. تاركاً مكتبته لطامعين فيما تحويه من كتب قديمة نادرة، وحدثني ذات يوم عن مخاوفه وهواجسه هذه، وكذلك لورثة كل ما كان يعنيهم.. هو أن يغلقوا الباب على المكتبة ،التي كونت عقلاً.. لم يرق لهم ما كان يكتبه ويقوله ويطلبه. وحتى المخزن – الذي حوى مؤلفاته المتراكمة – ضاقت به السيدة التي كانت تؤجره له، وآل الأمر إلى الورثة.. لتُدفن الكتب، وتغيب مؤلفات البنا عن الناس كما غاب جسده.

لم يكن البنا يدري أن هذه المكتبة.. هي التي ستودي بحياته في النهاية؛ ليكون ثاني اثنين.. بعد الجاحظ؛ الذي سقطت فوقه الكتب ومات تحتها. ففي يوم قرر العاملون في المكتبة تنظيف المكان، ومسح التراب والعوادم المتراكمة فوق الكتب، والتي ما إن تلتقط أحدها حتى تسوّد يدك، فطلبوا منه أن يدخل غرفة نومه، ويغلق على نفسه الباب حتى ينتهوا، لكنه لم يكن يأمن أحداً منهم، فأصر على أن يبقى على مكتبه في الصالة الخارجية، فامتلأت رئتاه بالغبار القديم، فسقط مغشياً عليه، يعاني من سُدة رئوية. نقلوه إلى مستشفى بالدقي، كان له فيه تأمين صحي، وهناك تدهورت صحته ومات بعد أيام، ليُصلّى على جنازته في مسجد علي بن أبي طالب.

كانت جنازة البنا بسيطة مثله. نفر قليلون.. جاءوا يجاهدون زحام الشوارع والغربة، والخوف من المجهول.. ليجدوه مسجى في قلب صندوق، لا ينتظر شيئاً من أحد. اصطف الناس يصلون عليه، وتقدم الصفوف نائب المرشد العام للإخوان المسلمين الدكتور محمود عزت، ونظرت إليه يومها متعجباً، فهو نائب المرشد العام لجماعة.. لم يرق لها فكر البنا، فحاربته، ونبذته، وتقولت عليه.

أتذكر يومها أن د. عزت أخطأ في صلاة الجنازة، فقلت له يومها – وكان الدكتور محمد مرسي في سدة الحكم – «الانشغال بالسلطة أنساكم الصلاة»، فنظر إليَّ في لامبالاة، ولم يُعقب، وأعاد الصلاة، صحيحة هذه المرة.

بعد الصلاة، تدافع صحفيون وحاملو كاميرات تلفزيون.. ليصوروا جنازة رجل كان الإعلام مشغولاً به، وكما أحسن إليه أساء.

اقترب مني أحد الإعلاميين، وطلب كلمة بحكم أنني حاورته وقرأت كتبه، وما إن بدأت الحديث حتى اقترب مني رجل يمسك في يمينه صفيحة فارغة، وأنصت قليلاً إلى ما أقول، ثم صرخ طالباً أن أتحدث عن أزمة البنزين؛ فهو سائق تاكسي، ولا يجد من يملأ بها التنك، فتركه متعطلاً في الدقي، ويسابق الزمن في سبيل الحصول على بنزين.. يعينه على مواصلة التقاط رزقه.

طلبت منه الهدوء قليلاً، لكنه عاد إلى الضجيج. رفعت بصري، فلمحت المرحوم الدكتور عصام العريان – عضو مكتب الإرشاد – يهم ليركب سيارته مغادراً المكان، فأشرت إليه، وقلت للرجل بعد أن رفت ابتسامة على شفتيَّ: «هذا الرجل قريب من رئيس الجمهورية، ويمكن أن يفيدك في موضوع البنزين، فاذهب إليه.» جرى الرجل بصفيحته الفارغة ينادي على الدكتور عصام، الذي فطن لما ينتظره، فدفع جسده داخل السيارة، وانطلقت به.

رحل البنا.. وهو يتوقع أن ينفتح الباب عريضاً لفكره، وأن يُعاد اكتشافه.. حتى ولو بعد نصف قرن، كما كان يتوقع دوماً، ولذا صرخ في آخر حياته قائلاً: «إلى كل الذين يؤمنون بأن الإسلام رسالة، والذين يؤرقهم التساؤل، نقول لا تيأسوا. لقد رسمنا الطريق، وبدأنا المسيرة، وندعوكم للمشاركة.»

وتبقى الأيام القادمة كفيلة بالبرهان.. على أن ما نادى به كان نبوءة، ستقف على قدميها ذات يوم، أو مجرد أضغاث أحلام، جعلها الزمن نسياً منسياً.

كان جمال البنا شجاعاً جسوراً، لا يهاب أحداً، ولا يخشى في الحق لومة لائم. كان يتلقى التهديد والوعيد من خصومه.. مبتسماً، هازئاً بأولئك الذين لا يستطيعون أن ينفعوا حتى أنفسهم، فكيف يضرونه؟ ولم يكن لديه شيء يخسره. فلا منصب، ولا ثروة، ولا ولد.

وحيداً مر على الدنيا، وذهب عنها على حاله غريباً، فطوبى للغرباء.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة