عمار علي حسن
كان جمال البنا – المولود في المحمودية.. من أعمال البحيرة في 15 ديسمبر 1920 – زاهداً مكتفياً بالقليل؛ فجلبابان من الزي الباكستاني.. كانا كافيين لستر جسده، ولقيمات معدودات.. يُقمن صلبه، بعد إخراجها من قلب ثلاجة قديمة، تسكن العتمة أوسع مساحة فيها. في أغلب الوقت كان رأسه مدفوناً بين أكداس من الورق والجرائد، بينما ترمي مكتبته العامرة بعض ظلها على نحافته، وهو جالس إلى مكتبه.. يدوِّن ما جال بخاطره أو اختمر بذهنه في دأب وإصرار ونشاط غريب، وكأنه شاب في مقتبل حياته يسعى إلى أن يتحقق، ويجد لقدميه الغضتين مكاناً في الزحام.
كان يجلس.. وخلفه نافذة صغيرة، تطل على مدرسة خليل أغا – تلك التي ذكرها نجيب محفوظ في ثلاثيته الشهيرة، وحل بها تلميذاً بطلها الذي لا يُنسى «كمال أحمد عبد الجواد» – وأمامه بضعة مقاعد متآكلة، انخفض حشوها، واهتزت أرجلها، وبعض مصابيح واهنة.. تتدلى من السقف، لتحارب العتمة الراقدة بين رفين متوازيين.. من الكتب الموزعة على معارف شتى، ينيخان على مكتب آخر، وضع فوقه جمال عبدالناصر يده، ليقرأ الفاتحة مع قادة «جماعة الإخوان المسلمين»، قبل أن يتنازعا ويأتي الخصام التاريخي.. والهجر والنبذ والاحتراب.
ينظر جمال البنا إلى المكتب – الذي خصَّصه لأمين مكتبته – ويقول لي: وضع عبد الناصر يده هنا، وأقسم على المصحف والسيف، كأي عضو في التنظيم الخاص للجماعة، لكن ما في قلبه.. لم يكن يعلمه إلا الله، لكن ما عرفناه فيما بعد كان كاشفاً، فالرجل جلس مع الشيوعيين وكأنه عضو في أي من تنظيماتهم السرية، وجالس الوفديين وكأنه منهم، وفي الوقت نفسه كان ينشئ تنظيمه الخاص بالجيش، وله اتصال بالسفارة الأمريكية، حين كانت الولايات المتحدة تساعد العسكريين.. على إسقاط نظم الحكم اليسارية في أمريكا اللاتينية.
أتوقف عند عبارته الأخيرة، وأقول: أتفهَّم كلامك.. في ضوء الظرف التاريخي وقتها، فتقارير السفارات الغربية.. كانت تذكر أن النظام الملكي إلى زوال، وأن مصر ستقع في يد الإخوان أو الشيوعيين، وكلاهما مرفوضان من قبَلها؛ فرغم أن الإنجليز أنشأوا تنظيم الإخوان، وسلَّموه إلى الأمريكيين، إلا أن تقارير السفارة البريطانية في القاهرة، وتقارير المخابرات الإنجليزية – التي نُشرت فيما بعد في كتاب مارك كوريتس «التاريخ السري لتآمر بريطانيا مع الأصوليين»، الذي ترجمه كمال السيد ونشره المركز القومي للترجمة بالقاهرة – كانت تؤكد أن الإخوان قد تمردوا على السفارة والمخابرات البريطانية، واتجهوا إلى مشروعهم الخاص.. الذي يناهض الغرب، وأنهم طرف مراوغ غير مأمون الجانب.
هزَّ جمال البنا رأسه، وقال: كان الإخوان قد بلغ عدد أعضائهم – العاملين والمنتسبين لهم والمتعاطفين معهم – في أوائل خمسينيات القرن العشرين نحو نصف مليون، من بين ثمانية عشر مليون نسمة هم كل سكان مصر، بينما كان اليسار يكسب كل يوم أرضاً جديدة، وهذا شكَّل خطراً على مصالح الغرب الرأسمالي.
لاحقتُه قائلاً: ربما يكون عبدالناصر اتصل بالسفارة الأمريكية.. كجزء من خطته الخداعية، كما فعل مع الإخوان واليساريين والوفديين، وكان له مشروعه الخاص، الذي سرعان ما ظهر، وبدا مستقلاً، بل متحدياً للغرب.
لم يختلف البنا مع هذا الرأي، وقال: عبدالناصر كان يعرف ما سيفعل منذ البداية، وهذا ما لم يفهمه الإخوان، فظنوا أنه منهم، وتصرَّفوا وكأن ما جرى في 23 يوليو 1952.. هو فرصتهم، ودفعوا ثمن هذا الوهم.
وسألته عن سر وجود هذا المكتب في بيته، فقال: كان بين الأثاث الذي ظل في شقة يمتلكها التنظيم الخاص للإخوان، ثم آل إلى بيت حسن البنا، واستملحته.. فأخذته بعد وفاته، لأكتب عليه. لكن لم ألبث أن هجرته، واشتريت مكتباً آخر، وها هو أمين المكتبة يجلس عليه كما ترى، لكن كلما أتى أحد زائري بيتي على ذكر عبدالناصر، أجد نفسي أشير إلى المكتب وأحكي له قصته.
أتأمل المكتب الذي وضع فوق صفحته كثيرون أياديهم.. ليقسموا على المصحف والسيف، وأغرق في ضحكات متواصلة: فكل هؤلاء إما ماتوا، أو تركوا مصر.. وساحوا في الأرض مهاجرين، أو مطاردين، أو تآكلت أجسادهم.. في غياهب السجون، أو يعيشون الآن ..يعانون – في شيخوختهم – من أمراض مزمنة، بينما بقي المكتب على حاله، متماسكاً قوياً، صالحاً للاستخدام.
وفي يوم قلت للأستاذ جمال البنا: من الأفضل أن يذهب هذا المكتب إلى متحف، فهو جزء من تاريخ هذا البلد. هزَّ رأسه، وقال: إن وجدت من يحمله إلى متحف أو أي مكان آخر، فليأتِ ويأخذه، أنا لم أمانع أبداً في هذا، لكن منذ متى كان هناك من يتلفت إلى هذه الأشياء، كما يفعل غيرنا؟
بعد موته أُغلقت شقة البنا، ولم يعد أحد من قرائه أو محبيه قادراً على الوصول إليها، وصار مصير هذا المكتب – بالنسبة لي على الأقل – مجهولاً، لكنني لم أنسَ اللحظة التي تخيلت فيها ساعد الشاب جمال عبدالناصر.. ممدودة فوقه؛ في خطوة ساهمت كثيراً في ترجمة ما كان يدور بمخيلته، وينشغل به رأسه.. إلى واقع عملي، عاش ثمانية عشر عاماً من تاريخ مصر، ولا تزال بعض آثاره باقية.
يستيقظ جمال البنا عند الفجر، يصلي ويجلس على مقعده.. خلف مكتب آخر، يقرأ ويكتب. ويواصل عصراً بعد ساعتين.. يخطفهما من الزمن في قيلولة منتظمة. يحل فيها على سرير قديم بسيط، غارق هو الآخر وسط الكتب، والبيت كله مكتبة، صالته وغرفه الأربع.. وحتى المطبخ، لا يخلو من كتب، بعضها قديم، إذ ورث جمال البنا مكتبة أبيه، مصنفاً واحدة من أعظم الموسوعات في الحديث الشريف (مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني) في 24 جزءاً، ومكتبة أخيه عبدالرحمن، والكثير من تراث آل البنا، وبعضها جديد.. يواكب ما تقذفه المطابع بلا هوادة. وسألته ذات يوم عن عدد الكتب التي يقتنيها فقال: نحو عشرين ألف كتاب، منها ثلاثة آلاف كتاب باللغة الإنجليزية، وقد زوَّد المكتبة بقاعة اطلاع وآلة تصوير ووحدة كمبيوتر.
(نكمل الأسبوع المقبل)
نقلاً عن «المصري اليوم»